هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن، تتفرقون كل واحد إلى خاصته.
كان ذلك المحب الحنون الطيب القلب يجول يصنع خيرًا. ينتقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة يكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب... ومع ذلك، اجتاز حياة مليئة بالألم. وكان الجميع يتركونه وحده، على الرغم من أنه في حنانه لم يترك أحدا. وهكذا وجدناه وحيدًا في متاعبه وآلامه، وحيدا فيما يتعرض له من ظلم واضطهاد: لم يدافع عنه أحد، ولم يقف إلى جواره أحد، وإنما "جاز المعصرة وحدة".
كان يصلي في بستان جثسيماني، وكان يكلم الآب في لجاجة وقد سال "عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض"، وهو يصرخ في اكتئاب "يا أبتاه أن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" أما تلاميذه، أحباؤه وأصدقاؤه، فقد تركوه وحده وناموا، ثلاث مرات يرجوهم أن يسهروا معه ساعة واحدة، وهم لا يستجيبون له؟" (مت26: 38- 45).
وعند القبض عليه تفرق تلاميذه كل واحد إلى خاصته وتركوه وحده كما سبق أن قال لهم (يو32:16). ولما حوكم لم يدافع عنه أحد، وهو الذي دافع عن أشهر الخطأة... وفي آلامه لكن هناك من يعزيه. أنه درس يعطيه لنا السيد الرب عندما يضطهدنا الجميع، وعندما يتركنا حتى تلاميذنا أيضًا، ويقف كل منا وحده...
وليس في وقت الآلام فقط، وإنما في كل حياته أيضًا... كان يكلم اليهود في الهيكل محدثًا إياهم عن التناول من جسده ودمه، وإذ صعب على البعض فهم هذا الأمر. يقول القديس يوحنا: "من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه، فقال يسوع للاثني عشر ألعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا" (يو66:6).
وفي مرة من المرات دعا البعض إليه، فاعتذر واحد ببقرته التي يريد أن يختبرها، وأعتذر الآخر لأنه مشغول بزوجته، واعتذر الثالث لمشغوليته بحقله. وتركه الجميع وحده، مع أنهم كانوا ثلاثتهم ممن أنعم عليهم (لو14: 18- 20).
ويعوزني الوقت يا أخي إن حدثتك عن المسيح الواقف وحده الذي "إلى خاصته جاء وخاصته لم يقبله" (لو11:1). ذلك النور الذي جاء إلى العالم وأحب العالم الظلمة أكثر من النور" (يو19:3).
كل ذلك حدث في القديم وما زال يحدث حتى الآن. نفس الصورة القديمة: المسيح واقف، والعالم منشغل عنه بملاذه وملاهيه وطيشه، ليس من يهتم بيسوع، ليس ولا واحد، ليس من يجلس إليه كمريم أخت مرثا، أو يتكئ في حضنه كيوحنا بن زبدي، أو يغسل قدميه كالمرأة الخاطئة. والمسيح نفسه يشعر بهذه الوحدة ويعرف أن غالبية العالم منصرفة عنه بل أن الكتاب ليتساءل أكثر من هذا: عندما يأتي المسيح إلى العالم ألعله يجد الإيمان على الأرض؟!
فهل أنت أيضًا تارك الرب يسوع وحده، ألك ما يشغلك عنه أسأل نفسك؟
قليلون كانوا يفكرون في المسيح، وحتى هؤلاء الذين كانوا يفكرون فيه ويتحدثون معه ويستمعون إليه، هؤلاء أيضًا كانت لهم طريقتهم الخاصة في التفكير، التي كثيرا ما كانت تتعارض مع طريقة المعلم الصالح.
يذهب السيد إلى السامرة فتطرده تلك المدينة الخاطئة وتغلق أبوابها في وجهه، وهنا يلتفت التلميذان اللذان كانا مع المسيح ويقولان له: "أن شئت يا رب أن تنزل نار من السماء وتحرق هذه المدينة"! ويرد عليهما السيد: "لستما تعلمان من أي روح أنتما [إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك العالم بل ليخلص العالم". كان هذان التلميذان يفكران بطريقة غير طريقة معلمهما الطيب الذي يشعر لأن له في هذه المدينة كثيرون مختارين.
هذا الشعور العدائي نحو السامريين، اقتبسه التلاميذ من معاصريهم من الفريسيين والكتبة وغيرهم. أما السيد المسيح فكان وحيدًا في تفكيره إزاء هؤلاء، كان يحبهم ويعطف عليهم ويريد أن يجذبهم إليه: "وهكذا حدث الناس عن السامري الصالح، وسار على قدميه مسافة طويلة ليهدي امرأة سامرية خاطئة، ويتحدث إلى مدينة السامرة.
وهكذا كان السيد وحيدًا في تفكيره إزاء الأمم أيضًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). كان هؤلاء محتقرين من الناس أما السيد المسيح فقال جهارا عن قائد المئة الروماني: "الحق أقول لكم أنني لم أجد في إسرائيل أيمانا كإيمان هذا الرجل" (مت10:8). وقال هذا الكلام نفسه عن المرأة الكنعانية (مت28:15).
وفي أغلب معاملات السيد للناس كان يقف وحده، والعالم يقف بعيدًا عنه من ناحية أخرى.
يجتمع اليهود حول امرأة زانية ضبطت في ذات الفعل، ممسكين حجارة في أيديهم كي يرجموها. الجميع لهم فكر واحد. وهو أن تلك الخاطئة يجب أن تموت. ولكن يسوع له فكر أخر "من منكم بلا خطية فليقذفها بأول حجر" (يو7:8) هكذا قال لهم، فانصرف الجميع، وقال السيد للمرأة: "وأنا أيضًا لا أدينك. أذهبي بسلام".
كان السيد المسيح يقف وحده بهذا القلب المحب، والعالم القاسي يعجب منه، هذا العالم المهتم بالظاهر أكثر من كل شيء: وليس أدل على ذلك من حادثتي الأعميين، والأطفال:
كان السيد خارجًا من أريحا، فأعترض طريقة أعميان يصرخان بصوت عال "أرحمنا يا سيد يا ابن داود". وظن الناس بتفكيرهم العالمي أن هذا الصراخ يزعج رب المجد فانتهروا الأعميين ليسكتا (مت31:20). أما يسوع الطيب القلب فنادي الأعميين إليه، وفي حنان شفاهما، أنه لا ينزعج من صراخ الناس وطلباتهم كما ينزعج الغير.
وتكرر هذا التصرف أيضًا عندما ازدحم حواليه الأطفال وظن الناس أن هؤلاء الصغار يضايقونه فانتهروهم. أما هو فقال لهم: "دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (مت14:19).
بينما كان الجمع يفكر أن السيد قد جاء ليكون ملكًا على إسرائيل، يحكم بأبهة الملوك ويخلص اليهود من اضطهاد الرومان، كان السيد يفكر في مملكة روحية يملك بها على قلوب الناس قائلًا لهم في أكثر من مناسبة: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو36:18).
وعلى هذا الأساس كان يفهم الخدمة أنها صليب يحمله الخادم في أرض مبللة بالعرق والدموع... ولكن هذه الأفكار لم يكن يفهمها حتى تلاميذه أيضًا.
وهكذا إذ حدث التلاميذ أنه ينبغي أن يسلم للناس ويقتل ويموت ويقبر، أخذه بطرس الرسول ناحية وبدأ يوبخه قائلًا "حاشاك يا رب. لا يكون لك هذا" (مت22:26). فأجابه السيد له المجد: "أسكت يا شيطان"، ترى كيف كان يمكن أن يخلص العالم لو نفذت نصيحة بطرس المسكين!
وهكذا أيضًا فيما كان السيد يضع صليبه أمام عينيه باستمرار، نرى التلاميذ يتركون معلمهم وحده في تفكيره، متناقشين فيما بينهم وبين أنفسهم "من يكون فيهم رئيسا"! ونرى ابني زبدي يأتيان إليه مع أمهما ساجدين طالبين أن يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ملكوته! ولكن السيد يرد هذين التلميذين إلى المعرفة الحقيقية للخدمة وطريقها ويجيبهما: "لستما تعلمان ما تطلبان. أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشريها أنا، وأن تصطبغا بالصبغة التي أصطبغ بها أنا؟" (مز38:10).
وحتى في كنه الخدمة نجد السيد المسيح واقفا وحده في تفكيره. يجمع الناس إليه فيتحدث إليهم بكلام النعمة ساعات طويلة حتى إذا ما أقبل المساء يأتي إليه التلاميذ قائلين (أصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى ويبتاعوا لهم طعاما) (لو12:9). يا للتلاميذ. أنهم لم ينضجوا بعد، هل كانوا يفكرون أن الخدمة مجرد كلام يلقي على الناس! أم أنها محبة عاملة! وهكذا يرد عليهم السيد: "لا حاجة لهم أن يمضوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا".
العالم مزدحم بخدامه، بل أن الخدام فيه لينافس بعضهم بعضًا، وكل صاحب مشروع يجد كثيرين ينضمون إليه ويعاونونه. أما السيد له المجد فإنه واقف وحده... لقد قال منذ عشرين قرنا تقريبا وما يزال حتى الآن: "الحصاد كثير والفعلة قليلون. أطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعله لحصاده" (مت38:9). ليس من ينضم إلى السيد في عمله. كل شخص يقول: "أحارس أنا لأخي؟" (تك9:4).
سأصِف لك يا أخي العزيز بعض حالات رأيتها بعيني(1)...
* امرأة فقيرة وزوجها وثمانية أولاد أكبرهم شاب طائش والذي يليه في السن صبي صغير. كل أيراد هذه الأسرة حوالي الأربعة قروش يكسبها الرجل يوميا مع بيع الليمون مثلا، يشتري بها خبزا يتخاطفه الأولاد في جوع، ثم تمر عليهم أوقات لا يجدون فيها ما يأكلونه، فتحمل الأم المسكينة البعض منهم إلى ملجأ أو جمعية لتتسول لهم طعامًا، وماذا إذن عن ملابسهم التي لا تستر من جسمهم شيئًا، وكيف يحتملون بهده الملابس برودة الشتاء وحرارة الصيف، ثم ماذا عن أجرة حجرتهم وصاحبة البيت التي تهددهم بالطرد وتشبعهم سبا وإهانة كلما قصروا في دفع الإيجار.
* امرأة أخرى أرملة وأولادها، كانت تعمل في جمعية دينية كحائكة للملابس مرضت شهرين، وربما لضعفها بسبب قلة الغذاء، فكانت النتيجة أن استغنت الجمعية عنها بسبب مرضها. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ولما قامت الأرملة الفقيرة من المرض ولست أدري تماما كيف عولجت... وكيف دفعت ثمن الدواء!! أقول أنها لما قامت وجدت نفسها وحيدة والدنيا مظلمة حولها.
* أرملة أخر شابة ولها ولدان، تسكن في حمام في بدروم في حجرة حقيرة في منتهي الرطوبة، تدفع إيجارًا لها ثلاثين قرشًا، وهي وأولادها مهددة بالسل وأمراض أخرى، ومهددة قبل كل ذلك بالارتداد عن الدين وبالفساد والتشرد. وكيف تقتات؟ تعمل كغسالة، ولكنها لجوعها ضعيفة الصحة، لا تقوى علي الغسيل فلا تجد مَن يستخدمها.
وهناك حالات أخرى كثيرة، والسيد المسيح واقف وحده يعتني بكل هؤلاء. يقيتهم ويجفف آلامهم، ويعزيهم ويعلمهم الصبر والاحتمال. وفي كل ذلك يريد أن يشرك معه البعض منا نحن الخطاة في شرف الخدمة، ولكنه مع كل هذا ينظر فيجد الحصاد كثيرًا والفعلة قليلين، ويجد الجميع قد انصرفوا كل واحد إلى خاصته وتركوه وحده.
ليس هو السيد المسيح طبعًا فهو ليس وحده، لأن الآب معه وهو ليس محتاجًا إلى عبوديتنا بل نحن المحتاجون إلى ربوبيته.
وهو عندما يدعونا أن نقف معه في وحدته، إنما يقصد خيرنا نحن بالذات. لأنه "أن كان الرب معنا فَمَن علينا" والذي يسير مع المسيح سيجد لذة روحية خاصة "تحت ظله اشتهيت أن أبيت". كما أنه في صحبة السيد لا يخاف شرًا "أن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرًا لأنك أنت معي" "وإن قام على جيشٌ ففي ذلك أنا مطمئن"، "عصاك وعكازك هما يعزياني" (مز23؛ 27).
هوذا المسيح ما يزال واقفا وحده يقرع على الباب حتى إذا فتحت له يدخل ويتعشى معك وأنت معه.
فهل لا تزال مُصِرًّا أن تتركه واقفًا وحده؟
_____
(1) كلها حالات في بداية الخمسينيات وأواخر الأربعينيات.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/695v7h9