محتويات
* إذ سمع الشاب أنطونيوس كلمات السيد المسيح في الكنيسة: "إن أردت أن تكون كاملًا فأذهب وبع كل ما لك ووزعه على الفقراء وتعال اتبعني" خرج ليتمم الوصية حرفيًا، ممارسًا الحياة النسكية على ضفاف النيل.
* بعد 15 عامًا انطلق إلى البرية الداخلية وسكن في مغارة على جبل القلزم، شمال غربي البحر الأحمر حيث قضى 20 عامًا في حياة الوحدة.. لكن سرعان ما التف حوله الكثيرون يمارسون حياة الوحدة متمثلين به، ومسترشدين بنصائحه، تنيح سنة 356 م.، وقد بلغ 105 عامًا ن وكان في كامل صحته.
* دعاه القديس أثناسيوس "رجل الحكمة الإلهية" ورجل النعمة والتهذيب.
* إذ كان البعض يتعجب لحكمته بالرغم من عدم معرفته القراءة والكتابة.
* كان يقول: "حسنًا، ماذا تقولون؟ أيهما جاء أولًا: العقل أم حروف الكتابة؟ وأيهما عله الآخر العقل علة الحرف؟ أم الحرف علة العقل؟ فإذ يجيبون أن العقل هو أولًا وانه مصدر الحروف، يقول: "من كان له عقل سليم فلا يحتاج إلى حروف!"
* جاء في "تاريخ الكنيسة" لسقراط أن الفلاسفة سألوا القديس أنطونيوس عن حياته كيف يمارسها دون تعزية الكتب، فأجابهم: كتابي أيها الفلاسفة هو الطبيعة، ففيها اقرأ لغة الله.
* يقول البابا أثناسيوس: "اقتنى أنطونيوس الشهرة لا من كتابات، ولا من حكمة عالمية، ولا من أي فن، إنما من خدمته لله".
* دعاه البابا أثناسيوس "طبيبًا وهبه الله لمصر". جاءت إليه وفود لا تنقطع من كل أنحاء الدولة الإمبراطورية، من كهنة ونساك وشعب، البعض يطلبون مشورته في أمور معينة، والآخرون يرغبون في مجرد الاقتراب إليه ليتعلموا من صمته، إذ يجدون في شخصه رجاءً جديدًا في حياتهم.
* يحسب أبًا للعائلة الرهبانية في العالم كله، غير تاريخ الكنيسة، وسحب قلوب كهنة كثيرين وجدوا أبواب القصر الإمبراطوري مفتوحًا أمامهم ومظاهر الترف بين أيديهم، ليستعذبوا حياة البرية وينشغلوا بالمجد الداخلي الخفي.
* إن كانت الكتابات المنسوبة إليه هي بأكملها له، أو جزء منها لأحد تلاميذه فإنها بلا شك تكشف عن روح الحركة الرهبانية الكنسية في بدء انطلاقها.
* كتابات القديس أنبا أنطونيوس أوضحت الفكر الرهباني كفكر إنجيلي حي، يقوم على عمل الروح القدس الناري في تقديس الإنسان بكليته: جسدًا وروحًا متى كان جادًا في جهاده الروحي، متجاوبًا مع عمل النعمة الإلهية المجانية.
1- يسجل لنا مؤسس نظام الوحدة نظرته الرهبانية الحية. إنها ليست وحدة انعزال عن البشرية، بل اتحاد مع الله محب البشر.. يحمل الراهب الحب لكل البشرية وفي وحدته وسكونه.
2- يقدم لنا كمؤسس لنظام الوحدة نظرته المقدسة للجسد، مع تحذيرنا من شهواته.
3- المعرفة في فكره ليست أمرًا عقلانيًا بحتًا، لكنها خبرة معاشة بروح الله العامل فينا.. هذا ما كرره مثيرًا في رسالته لأبنائه الرهبان.
* وإني أتركك مع ما ورد في الفيلوكاليا من كتابات القديس لكي تتلمس مفاهيمه الروحية واللاهوتية العميقة بأسلوب بسيط عذب.
1- في رأيي أن نعمة الروح القدس تكون دائمًا مستعدة أن تملأ أولئك الذين يمارسون العمل الروحي من كل قلوبهم وأن يحددوا من البداية أن يقفوا ثابتين ولا يعطون مكانًا مطلقًا في أي معرفة حتى ينتصروا عليه.
* لذلك فإن الروح القدس الذي دعاهم من البداية يجعل كل الأشياء سهلة لهم لكي يلذذ لهم في البداية عمل التوبة وأخيرًا يكشف لهم طرقه في كمال الحق. ويساعدهم في كل شيء ويدفعهم لأعمال التوبة التي يجب أن يمارسوها ويضع أمامهم الأشكال والحدود لكل من الجسد والنفس حتى يجعل كليهما يتجه نحو الله خالقهم. لأن الهدف هو حث كل من الجسد والنفس على الجهاد لكي يتقدس كلاهما ويكون كلاهما مستحقًا ليرث الحياة الأبدية. لكي يجهد الجسد في الصوم الدائم والعمل والسهر المستمر والروح أيضًا في التدريبات الروحية واليقظة في كل ممارسات الخدمة التي تمارس خلال الجسد. وهذه الممارسات التي يجب أن تكون في خوف الله وبحماس في كل أعمال الجسد إذ ما أردنا أن نحصل على الثمار. (من الرسالة الأولى).
2- إن قيادة الإنسان التائب هي لممارسة العمل الروحي، فإن الروح القدس الذي قاد ذلك الإنسان للتوبة هو الذي يمنحه أيضًا التعزيات وأن يعلمه ألا يرتد للخلف ولا يرتبط بأي شيء من أشياء هذا العالم. ولهذه النهاية فإنه يفتح عيني النفس ويجعلها تبصر جمال الطهارة التي يصل إليها خلال أعمال التوبة وبهذا الأسلوب فإن الروح القدس يزرع فيه الحماس لإكمال تطهير النفس والجسد. لأن الاثنين (النفس والجسد) يجب أن يكونا واحدًا في الطهارة لأن هذه هي تعاليم وقيادة الروح القدس. وهو أن يظهرها بالتمام وأن يعود بها إلى حالتها الأولى التي كانا عليه قبل السقوط وذلك عن طريق سحق كل أعمال الزنا التي زرعها حسد الشيطان. وعندئذ لا يبقى أي عمل من أعمال الشياطين فيهم. وعندئذ يصير الجسد خاضعًا ومطيعًا لما يمليه العقل في كل شيء والعقل يسود على الجسد لتحديد طعامه وشرابه ونومه وكل فعل من أعماله ودائمًا يتعلم من الروح القدس كيف يسود على الجسد ويقود الجسد للخضوع.
3- إنه معروف أن الجسد له ثلاث تحركات شهوانية، التحرك الأول من الطبيعة الموجودة في الجسد وهو لا يوجه أي خطية بدون موافقة النفس وفقط يجب أن تعرف أنه موجود في الجسد ذلك التحرك الطبيعي والتحرك الثاني الموجود في الجسد الذي يتولد من الأكل والشرب الزائد حين تتولد حرارة الدم فإن الجسد يثور لكي يحارب ضد النفس ويحثها نحو الشهوة الدنسة. حيث يقول الرسول بولس: "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة" (أف 18:5)، وهكذا فإن الرب يطلب من تلاميذه في الإنجيل: "فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر" (لو 34:21) ولأولئك الرهبان والنشطاء لكي يصلوا إلى قامة الملء في القداسة والطهارة يجب أن ينتبهوا دائمًا لكي يحفظوا أنفسهم حتى يقولوا مع الرسول بولس: "أقمع جسدي وأستعبده" (1كو 27:9) أما التحرك الثالث فإنه يأتي من الأرواح الشريرة التي تحاربنا بدافع الحسد وتحاول أن تضعف أولئك الذين وجدوا الطهارة أو لكي تطرح من طريق الطهارة أولئك الذين يرغبون أن يدخلوا في باب الطهارة.
4- مع ذلك لو أن الإنسان سلم نفسه بالصبر والإيمان غير المنحرف نحو تنفيذ وصايا الله، فإن الروح القدس سوف يعلم عقله كيف يطهر نفسه وجسده من مثال هذه الإثارات. ولكن لو حدث في أي وقت أنه ضعف في شعوره وسمح لنفسه أن يهمل الوصايا والأوامر التي يتلقاها فإن الأرواح الشريرة سوف تبدأ أن تصرعه وسوف تضغط على كل أجزاء الجسد وسوف تقودها إلى الإثارة حتى تقود النفس إلى حالة لا تستطيع فيها أن ترجع وفي يأس النفس سوف لا تعرف كيف تأتى المعونة. ولكن في تعقلها سوف ترجع ثانية إلى الوصايا وسوف تحمل النير وتخضع للروح القدس وسوف تقتنى تدبير الوحدة وعندئذ سوف تفهم النفس أنها يجب أن تطلب السلام في الله فقط، وهذا هو فقط السلام الممكن الحصول عليه.
5- إن الجهاد لأجل نوال الطهارة الكاملة هو ما نحتاج إليه لكي نحمل أتعاب التوبة في كل من النفس والجسد بتوافق وتساوي. وحينما ينال العقل مثل هذه النعمة فإنه يستطيع أن يدخل معركة الجهاد ضد الشهوات بدون الانغماس الذاتي وسوف ينال العقل التوجيهات والتعزيات من الروح، وبمساعدة الروح القدس فإنه بنجاح ينزع من النفس كل حركات النجاسة التي تأتى من شهوات القلب. إنه بالإتحاد مع العقل أو مع نفسه والروح القدس فإن هذه الروح تساعد الإنسان في تنفيذ الوصايا التي يكون قد تعلمها بأن توجهه بأن ينزع من النفس كل الشهوات سواء تلك التي تأتى من الجسد أو من ذواتها وتوجد مستقلة في الجسد. وهى تعلم الإنسان أن يحفظ كل جسده مطيعًا (للوصية) من الرأس حتى القدم، وأن يعلم عينيه أن تنظر بطهارة وأذنيه أن تصغيا بسلام وأن لا تتلذذا بالوشايات والإدانات وذم الآخرين وأن يعلم لسانه ألا يقول إلا الصالح وأن يزن كل كلمة وألا يسمح لأي كلمة شهوانية أو غير طاهرة أن تمتزج بحديثه وأن يتحرك اللسان أولًا لكي يرتفع في الصلاة ولأعمال الرحمة، وإن يعلم المعدة أن تتناول الطعام والشراب بمقدار وألا تسمح إلا بتناول ما هو ضروري فقط لكي تعول الجسد ولا تدع الشهوة أو النم يتسرب إليها. وأن تعلم القدم أن تسير في البر حسب مشيئة الله هادفة لخدمة الأعمال الصالحة، وبهذا الأسلوب فإن الكل يتعود لكل صلاح وأن يخضع لقوة الروح القدس وبالتدريج فإنه سوف يتغير حتى يصل في النهاية أن يشترك في ذلك القياس في ذلك الجسد الروحاني الذي سوف تأخذه في القيامة العادلة.
6- بكل قوتي أصلى إلى الله من أجلكم لكي يرسل إلى قلوبكم ذلك الروح الناري الذي من أجله جاء الرب يسوع لكي يرسله للأرض (لو 49:12) حتى يكون لديكم القدرة أن تسيطروا بالحق على مقاصدكم وحواسكم وأن تميزوا بين الخير والشر.
7- حينما تهب الريح بهدوء فإن كل بحّار يستطيع أن يفكر في نفسه أنه شيء ويفتخر بمهارته ولكن فقط التغير المفاجئ للريح هو الذي يكشف مهارة البحارة.
8- إن الله يقود الكل خلال عمل نعمته ولذلك لا تكن كسلانًا أو متبلدًا ولكن أدعُ الله نهارًا وليلًا لكي يرسل لك الله محب البشر معونة من فوق لكي يعلمك ما يجب أن تفعله "لا تعطوا لأعينكم نومًا ولا لأجفانكم نعاسًا" (مز 131:4) وفي حماسك حتى تقدم نفسك طاهرة كتقدمة طاهرة حتى نراه "اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب"، كما يقول الرسول بولس (عب 14:12).
9- دعنا نستيقظ من النوم طالما نحن ما نزال في الجسد. دعنا نصرخ على أنفسنا ونبكى على ذواتنا من كل قلوبنا ليلًا ونهارًا لكي نتحرر من العذاب الرهيب والبكاء والعويل والنار التي لا نهاية لها. ليتنا نحذر من الباب الواسع والطريق الذي يقود للهلاك الذي يسير فيه الكثيرون ولكن دعنا نسير في الباب المستقيم والطريق الضيق الذي يقود للحياة وقليلون هم الذين يسيرون فيه. والذين يتبعون ذلك الطريق الأخير هم الفعلة الحقيقيون الذين يحصلون على المكافأة لجهادهم بفرح وسوف يرثون الملكوت. وأما أولئك الذين لم يستعدوا بعد للاقتراب منه فأنا أتوسل إليهم ألا يصيرون مهملين مادام يوجد وقت لئلا يجدوا أنفسهم في ساعة الاحتياج بلا زيت ولا يجدون من يبيع لهم. وهذا ما حدث للخمس عذارى الجاهلات اللاتي لم يجدن من يشترون منه وعندئذ صرخن وبكين قائلات: "يا سيد يا سيد أفتح لنا فأجاب وقال الحق أقول لكن إني ما أعرفكن" (مت 11:25-12) وهذا قد حدث للخمس عذارى الجاهلات ليس لسبب أخر غير الجسد. إنهن نمن أخيرًا وبدأن تشغلن أنفسهن ولكن بلا فائدة لأن رب البيت قد جاء وأغلق الباب كما هو مكتوب.
* نستقى من تعاليم الأنبا أنطونيوس من خلال ما كتبه الأنبا أثناسيوس عن حياته... نقطتف هذا الجزء.
* وفي أحد الأيام إذ خرج، لأن جميع الرهبان اجتمعوا إليه وطلبوا أن يسمعوا كلماته وخاطبهم باللغة المصرية قائلًا إن الأسفار المقدسة كافية للتعلم ولكنه جميل تشجيع الواحد لآخر في الإيمان وإنهاضه بالكلام لذلك أطلب كبنين أن تحملوا ما تعرفونه إلى أبيكم، وأنا كأخيهم الأكبر أشارككم معرفتي وما علمني إياه الاختبار، ليكن الهدف العام للجميع بصفة خاصة أن لا تتراجعوا بعد أن بدأتم، أو تخور عزائمكم في الضيق ولا تقولوا: لقد عشنا طويلًا في النسك بل بالحري لنزدد غيرة كأننا كل يوم مبتدئين لأن كل حياة الإنسان قصيرة جدًا إن قيست بالدهور القادمة، ثم إن كان زماننا ليس شيئًا إن قيس بالحياة الأبدية. وفي العالم كل شيء يباع بثمنه، والإنسان يبادل السلعة بنظيرها، أما وعد الحياة الأبدية فيشترى بأمر زهيد جدًا لأنه مكتوب " أيام حياتنا فيها سبعون سنة وإن كانت مع القوة فثمانون سنة وما زاد على هذه فهو عناء وحزن " لذلك فحينما نعيش ثمانين سنة كاملة أو حتى مائة في النسك فإننا لا نملك مائة سنة فقط بل نملك إلى الأبد بدلًا من مائة سنة. ورغم أننا جاهدنا على الأرض فإننا لا ننال ميراثنا على الأرض بل ننال المواعيد في السماء وإذا ما خلعنا الجسد الفاسد نسترده غير فاسد.
* لذلك يا أبنائي يجب أن لا نُكل، أو نحسب الزمن طويلًا، أو أننا نعمل أمرًا عظيمًا "لأن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا". كذلك يجب أن لا نظن ونحن ننظر إلى العالم إننا قد تركنا شيئًا ذا أهمية كبيرة، لأن كل الأرض تافهة جدًا إذا قيست بكل السماء. وحتى لو كنا أسيادًا على كل الأرض وتركناها كلها فإنها لا تقاس بالمرة بملكوت السماء. لأنه كما أن الإنسان يحتقر درهمًا من نحاس لكي يربح مائة درهم من ذهب هكذا لو كان سيدًا لكل الأرض وتركها فإن ما يتركه زهيد وينال مائة ضعف. إن كانت كل الأرض لا توازى السموات في قيمتها فأن من يترك أفدنة قليلة كأنه لم يترك شيئا. حتى إن كان قد ترك بيتًا أو ذهبًا وفيرًا وجب ألا يفتخر أو يكتئب.
* والأكثر من هذا يجب أن ندرك بأننا حتى إن لم نتركها من أجل الفضيلة فإننا فيما بعد حينما نموت سوف نتركها وراءنا -في غالب الأحيان- لمن لا نحب كما يقول الجامعة. إذن فلماذا لا نتركها من أجل الفضيلة لكي نرث ملكوتًا؟
* لهذا يجب أن لا تتملك على أي واحد رغبة الامتلاك، لأنه أي ربح نجنيه من الحصول على تلك الأشياء التي لا نستطيع أخذها معنا؟ ولماذا لا نحصل بالحري على تلك التي نستطيع أخذها معنا: الحكمة، والتعقل، العدل، الاعتدال والشجاعة والفهم والمحبة والرحمة على الفقراء والإيمان بالمسيح والتحرر من الغضب، وكرم الضيافة؟ إن امتلكنا هذه وجدناها من تلقاء ذاتها تعد لنا ترحيبًا هناك في أرض الودعاء.
* وهكذا على المرء أن يقنع نفسه من أمثال هذه الأمور بأن لا يستخف بها سيما إذا عرف أنه هو نفسه خادم الرب، ويجب أن يخدم سيده. وكما أن الخادم لا يتجاسر على القول، لم أعمل عملًا اليوم لأنني عملت بالأمس، ولم أعمل عملًا في المستقبل نظرًا لما عملته في الماضي، ولكنه كما هو مكتوب يظهر كل نفس الاستعداد لإرضاء سيده وتجنب الخطر، هكذا يجب علينا كل يوم أن نلبث ثابتين في نسكنا، عالمين بأننا إن تغافلنا يومًا واحدًا لا يغفر لنا الرب من أجل الماضي، بل يغضب علينا من أجل تغافلنا، كما سمعنا أيضًا في حزقيال، وكما أضاع يهوذا تعبه السابق بسبب ليلة واحدة
* لذلك يا أبنائي وجب أن نتمسك بنسكنا ولا نتغافل. لأن الله عمل معنا فيه، كما هو مكتوب "كل الذين يختارون الخير الله يعمل معهم الخير" ولكن لكي نتجنب حركة التراخي والإهمال يحسن بنا أن نتذكر كلمة الرسول "أموت كل يوم"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لأننا نحن أيضًا إن كنا نعيش كأنما نمات كل يوم يجب أن نعتبر بأننا سوف لا نقوم. لأن حياتنا غير مؤكدة بطبيعة الحال. والعناية الإلهية تهبها لنا كل يوم. إن رتبنا حياتنا اليومية على هذا المنوال فلن نسقط في الخطية، أو نشتهى أي شيء، أو نحقد على أحد، أو نكدس أي كنز على الأرض. بل -كأننا نتوقع الموت كل يوم- نكون بلا ثروة ونغفر كل شيء لكل الناس ولن تكون لنا على الإطلاق شهوة للنساء أو لأية لذة قذرة أخرى بل نتحول عنها كأننا قد عبرت وولت، ونجاهد دومًا متطلعين بصفة مستمرة إلى "يوم الدينونة" لأن الخوف من عذاب يخلنا من الشهوات ويدعم النفس إن كانت على وشك السقوط.
* وإذ قد بدأنا السير في طريق الفضيلة فعلًا، وسرنا فيه، وجب أن نزداد جهادًا للحصول على تلك الأمور التي أمامنا ويجب أن لا يلتفت أي امرئ إلى الأمور التي خلفه كامرأة لوط، سيما وقد قال الرب "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله" وهذا الالتفات إلى الوراء ليس إلا الشعور بالندم والتفكير في العالم مرة أخرى لكن لا تخافوا من أن تسمعوا عن الفضيلة، ويدهشنكم اسمها، فهي ليست بعيده عنا ولا هي خارجة عنا، بل هي في داخلنا. وهى ميسورة لو إننا أردنا. لكي يحصل اليونانيون على المعرفة فإنهم يعيشون في الخارج ويعبرون البحار، أما نحن فلا داعي لكي نرتحل عن أوطاننا من أجل ملكوت السماء، أو نعبر البحار من أجل الفضيلة. لأن الرب سبق أن قال "ملكوت الله داخلكم".
* وطالما كانت الفضيلة فينا وتنشأ منا. لذلك فإنها لا تتطلب منا سوى الإرادة لأنه إذا أدت النفس وظيفتها الروحية في حالة طبيعته نشأت الفضيلة. وهى تكون في حالة طبيعية إذا لبثت كما أتت إلى الوجود كانت جميلة ومتزايدة في النيل لأجل هذا قال يشوع بن نون للشعب في نصحه "اجعلوا قلوبكم مستقيمة نحو الرب إله إسرائيل" وقال يوحنا "اصنعوا سبله مستقيمة، لأن تقويم النفس يتضمن جعل ناحيتها الروحية في حالتها كما خلقت. ولكنها من الناحية الأخرى إن انحرفت وتباعدت عن حالتها الطبيعية فهذا ما يدعى رذيلة النفس.
* وهكذا ترى أن المسألة ليست عسيرة فإننا إن لبثنا كما خلقنا صرنا في حالة الفضيلة أما إذا فكرنا في الأمور السالفة حسبنا أشرارًا ولذلك لو كان هذا الأمر لابد من الحصول عليه من الخارج لكان عسيرًا حقًا أما إن كان فينا فلنحفظ أنفسنا من الأفكار الدنسة، كما أننا قبلنا النفس وديعة فلنحفظها للرب لكي يدرك أن عمله هو بعينه كما خلقه.
* ولنحرص على أن لا يتملك علينا الغضب أو تغلبنا الشهوة لأنه مكتوب "إن غضب الإنسان لا يصنع بر الله. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتًا". وإذ نعيش هكذا فلنأخذ كل حذرنا، وكما هو مكتوب "لتحفظ قلوبنا بكل حرص، لأن لنا أعداء مروعين في غاية الدهاء -الأرواح الشريرة- ومصارعتنا معها كما قال الرسول، ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على هذه الظلمة مع أجناد الشر الروحية في السماويات". وما أكثر عددها في الهواء المحيط بنا وهى ليست بعيدة عنا. ويمكن ذكر الكثير عن طبيعتها والفوارق التي بينها على أن وصفا كهذا يترك لغيرنا ممن هم أقدر منا، أما في هذا الوقت فمن المحتم والضروري لنا أن نعرف فقط حيلها ضدنا.
* لذلك يجب أولًا أن نعرف هذا، أن الشياطين لم تخلق بالحالة التي نعنيها عندما ندعوها بذلك الاسم لأن الله لم يخلق شيئًا شريرًا، بل حتى هي خلقت صالحة، ولكنها إذ سقطة من الحكمة السماوية فإنها منذ ذاك الوقت تعيش في الأرض فسادًا، فهي قد أضلت الأمم بحبائلها المختلفة، ثم أنها بسبب حسدها لنا نحن المسيحيين تحرك كل الأشياء بحسب هوائها لصدنا عن دخول السماويات، لكي لا نصعد إلى المكان الذي منه سقطت. وهكذا تدعو الحاجة إلى الصلاة والنسك حتى - وإذا ما حصل المرء على موهبة تمييز الأرواح كانت له القدرة على معرفة مميزاتها، ليدرك أيها أقل شرًا وأيها أكثر. وما هي طبيعة جهاد كل منها وكيف يمكن دحض وطرح الفاسد منها خارجًا لأن خبثها وحيلها كثيرة ولقد عرف الرسول المغبوط أمثال هذه الأمور حينما قال "لأننا لا نجهل حيله" أما نحن فمهما قاسيناه على أيديها من التجارب وجب أن نصلح من شأن بعضنا بعضًا. ولذلك فإنني أتحدث كما إلى بنى عن أمور لدى البرهان عليها باختبارات عملية.
* ولذلك أن رأت الشياطين كل المسيحيين، سيما الرهبان، مجدين بابتهاج، متقدمين فإنها أولًا تهجم بالتجربة، وتضع الصعاب لعرقلة طريقها، وتحاول أن تنفث فينا الأفكار الشريرة ولكن لا مبرر للخوف من إغراءاتها لأن هجومها يرتد خائبًا في الحال بالصلاة والصوم والإيمان بالرب. ولكنه حتى إن ارتدت خائبة فإنها لا تسكت بل ترجع ثانية بمكر وخبث ودهاء. فهي إن عجزت عن خداع القلب بالذات الدنسة صراحة اقتربت في صور مختفية مختلفة، ومن ثم حاولت أن تبعث الرعب والفزع مغيرة أشكالها، ومتخذة صورًا متعددة متباينة ولكن حتى إذا ظهرت بهذه المظاهر لكم فإنها ليست شيئا، ولابد أن تختفي في الحال، سيما إن كان المرء قد سبق فحص نفسه بالإيمان وعلامة الصليب. ومع ذلك فإنها إن غلبت على أمرها هكذا هجمت بكيفية أخرى، وادعت التنبؤ بالمستقبل وذلك لكي تخدع بهذه المظاهر من لم ينخدع.
* ثم قال إنها كثيرًا ما ظهرت كما كشف الرب إبليس لأيوب قائلًا وعيناه كهدب الصبح. من فمه تخرج مصابيح، شرر نار تتطاير منه من منخريه يخرج دخان كأنه من قدر منفوخ أو من مرجل. نفسه يشعل جمرًا. "ولهيب يخرج من فيه" وعندما يظهر رئيس الشياطين على هذا المثال، فإن المحتال الكثير الدهاء - ينفث الرعب بالتكلم بعظائم كما استذنبه الرب قائلًا لأيوب "يحسب الحديد كالتبن والنحاس كالخشب النخر. يحسب البحر كقدر عطارة. وعمق الهاوية كأسير والهاوية كطريق مغطى" وقال النبي "قال العدو أتبع أدرك" وقال آخر أيضًا "أقبض على كل الأرض في يدي كعش وأجمعها كما يجمع بيض مهجور.
* وهكذا نرى بالإيجاز افتخارها وادعاءاتها لكي تخدع الأتقياء ولكن مع كل ذلك يجب علينا نحن المؤمنين أن لا نخاف مظاهره أو نأبه بكلماته. لأنه كذاب، ولا يتكلم كلمة واحدة صادقة على الإطلاق. ورغم تعظمه في تبججه بكلمات هذه كثرتها فإنه بلا شك اصطيد بشص كتنين بواسطة المخلص، وأوثقت خياشيمه بخِزامة كهارب. وثقبت شفتاه بمثقب وقد أوثقه الرب كعصفور لكي نهزأ به. وقد وضعت معه الشياطين رفقاءه كحيات وعقارب نطأها نحن المسيحيين تحت الأقدام. والدليل على هذا إننا نعيش الآن بالرغم منه. لأن ذاك الذي هدد بأن يجفف البحر ويقبض على العالم هوذا الآن لا يستطيع أن يثبت أمام نسك الأتقياء، ولا أمامي إذ أتكلم ضده. إذا فلا نأبه بكلماته لأنه كذاب. ولا نخش رؤياه إذ أنها في حد ذاتها خادعة. لأن ما يظهر فيها ليس نورًا حقيقيًا بل هي بالأحرى مقدمة وعينه للنار المعدة للشياطين التي تحاول إزعاج البشر بتلك اللهب التي سوف تحترق فيها. لا شك في أنها تظهر، ولكنها في لحظة تختفي ثانية دون أن تؤذى أحدًا من المؤمنين بل تحمل معها شبه تلك النار التي سوف تنالها هي نفسها، لأجل هذه الأسباب لا يليق بنا أن نخشاها، فكل محاولتها فاشلة بنعمة المسيح.
* ثم أيضًا هي مخادعة وهى مستعدة لتغيير نفسها في كل الأشكال واتخاذ كل المظاهر، وهى أيضًا دون أن تظهر -كثيرًا ما قلدت نغمات القيثار والصوت ورددت كلمات الكتاب المقدس. وفي وقت آخر تتخذ شكل الرهبان وتتظاهر بكلام القديسين لعلها بأشباههم تخدع فرائسها وتجرها حيث أرادت- ولكن يجب أن لا يؤذيه لها حتى لا يوجد مشاقة إذا أوعزت إلينا أن لا نأكل على الإطلاق أو وبختنا وخجلتنا من أجل تلك الأمور التي أباحها لنا في الماضي. لأنها لا تفعل هذا من أجل التقوى والحق بل لكي تحمل البسطاء على اليأس ولكي تقول إن النسك لا فائدة منه. وتجعل الناس يكرهون حياة الوحدة كأمر شاق وحمل ثقيل، وتعطل أولئك الذين يسلكون فيها بالرغم منها.
* والرب نفسه، حتى مع تكلم الشياطين بالحق، لأنها بحق قالت "أنت ابن الله"، كمم أفواهها ولم يدعها تتكلم، لئلا تزرع شرها مع الحق، ولكي يعودنا أن لا نبالي بها على الإطلاق حتى إذا بدا أنها تتكلم بالحق، لأنه لا يليق بنا بعد الحصول على الأسفار المقدسة والحرية من المخلص أن نتعلم من إبليس الذي لم يحفظ رتبته بل انتقل من فكر إلى آخر. ولذلك فمع استعماله لغة الكتاب المقدس فقد منعه الرب قائلًا: "وللشرير قال الله مالك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك".
* قال المخلص "إبليس قتال للناس من البدء وأب الرذيلة" بالرغم من هذا فإننا نعيش ونقضى حياتنا متزايدين في مقاومته فمن الواضح أنها عديمة القوة، فهي تنظر إلينا كأصدقاء حتى تعفو عنا، ولا هي محبة للصلاح حتى تصلح من شأنها وتعدل عن رأيها، بل هي بالعكس شريرة ولا تسعى وراء شيء سوى جرح من يحبون الفضيلة ويتقون الله ولكن نظرًا لأنها لا قوة لها لعمل شيء، فإنها لا تفعل شيئًا سوى الوعيد. فلو كانت قادرة لما ترددت بل فعلت الشر في الحال (لأن كل رغبتها منصرفة ضدنا).
* هوذا نحن الآن مجتمعون معًا، ونتكلم ضدها، وهى تعرف بأننا كلما تقدمنا ازدادت ضعفًا. فلو كانت لديها قوة لما سمحت لأي واحد منا نحن المسيحيين أن يعيش، لأن التقوى مكرهة الخاطئ.
* لذلك أبكم الرب أفواه الشياطين، وخليق بنا إذ قد تعلمنا من القديسين أن نفعل مثلهم ونقتدي بشجاعتهم لأنهم عندما كانوا يرون هذه الأمور كانوا يقولون "ولكنى كنت كأصم لا أسمع وكأبكم لا يفتح فمه وصرت كإنسان لا يسمع".
* ومنذ افتقاد الرب للأرض سقط العدو وضعفت قوته - وإن الشيطان إذ لم يستطع أن يفعل شيئًا فإنه كطاغية لم يحتمل سقوطه بهدوء بل هدد، مع أن تهديداته لم تكن سوى كلمات "لأنه كذاب وأبو كل كذاب".
* ولكن إن قال واحد وهو يذكر قصة أيوب: لماذا إذًا خرج إبليس وتمم كل شيء ضده وجرده من كل ممتلكاته، وقتل بنيه، وضربه بقروح ردية؟ فليذكر مثل هذا من الناحية الأخرى إن إبليس لم يكن هو القوى بل الله الذي سمح له أن يستلم أيوب لامتحانه. يقينا أنه لم تكن لديه قوة لعمل شيء ولكنه طلب، وإذ أجيب إلى طلبه فعل ما فعل. وبهذا نفسه يكون ضعف العدو إذ أنه لم يقدر على شخص بار واحد. لأنه لو كانت له قوة لما طلب الإذن. أما وقد طلب لا مرة واحدة بل مرة أخرى أيضًا فقد بين شغفه وافتقاره إلى القوة وليس عجيبًا إن عجز عن أن يفعل شيئًا ضد أيوب إن كان الهلاك لم يحل حتى بمواشيه لو لم يكن الله سمح بذلك وليس لديه سلطان على الخنازير لأنه مكتوب في الإنجيل أن الشياطين طلبت من الرب قائلة " إئذن لنا أن ندخل الخنازير "فبالأولى جدًا ليس لها سلطان على البشر الذين قد تكونوا على صورة الله.
* إذ أوجب أن نخاف الله فقط، ونحتقر الشياطين ولا نرهبها إذ أنها تخشى الصوم والسهر والصلوات، والوداعة، والهدوء، واحتقار المال والمجد الباطل، ومحبة المساكين، والصداقة، وتحرر النساك من الغضب، وفوق الكل تقواهم نحو المسيح، لذلك فهي تفعل كل شيء لكي لا يكون هناك من يطؤها إذ تعرف النعمة المعطاة للمؤمنين ضدها بواسطة المخلص حينما قال "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو".
* وإن ادعت التنبؤ بالمستقبل وجب أن لا يلتفت إليها أحد، فمثلًا قد تعلن مقدمًا أن الأخوة قادمون بعد بضعة أيام فيأتون فعلًا وعلى أي حال فإن الشياطين لا تفعل هذا لاهتمامها بالسامعين بل لكي تنال ثقتهم وبعد ذلك قد تهلكهم إذ تستحوذ عليهم في سلطتها لهذا يجب أن لا نصغي إليها. بل بالحري أن نخرسها إذ تتكلم، فنحن لسنا في حاجة إليها، بل أي عجب إن كانت وهى بأجسادها الأكثر دهاء من أجساد البشر عندما ترى الإخوة يبدأون أسفارهم تتقدم عنهم بسرعة وتعلن مجيئهم وكما أن راكب الحصان عندما يسبق السائر على قدميه يعلن مقدمًا قدومهم هذا الآخر، كذلك لا داعي للتعجب منها في هذا الصدد. لأنها لا تعرف شيئًا لم يوجد بعد في الوجود. ولكن الله وحده هو الذي يعرف كل الأشياء قبل ولادتها. أما هذه فإنها تركض أولًا وتعلن ما ترى. فقد أعلنت فعلًا خدمتنا للكثيرين، أعلنت أننا مجتمعين معًا نتناقش في بعض الإجراءات ضدها، وذلك قبل أن يستطيع أي واحد منا أن يذهب وينبئ بهذه الأمور. والواقع أن هذا ما يستطيع فعله أي فتى رشيق الحركة عندما يسبق شخصًا أقل حركة. ولكن ما أقصده هو هذا: أنه أن بدا شخص يسير من طيبه أو من أي منطقة أخرى فإنها قبل أن يبدأ المسير لا تستطيع معرفة اتجاه مسيره. ولكنها عندما تراه سائرًا تسرع وتعلن اقتراب وصوله قبل أن يصل. وهكذا يحدث أن يصل المسافرون بعد ذلك بضعة أيام. ولكن كثيرًا ما يحدث أن السائرين يرجعون فيتضح كذب الشياطين.
* هكذا أيضًا فيما يختص بمياه النهر، فالشياطين في بعض الأحيان تعطى بيانات خاطئة فإذ هي ترى أمطارًا كثيرًا في مناطق أثيوبيا، وهى تعرف أنها هي سبب فيضان النهر، فإنها تسرع وتعلن الأمر قبل وصول المياه إلى مصر. وهذا ما يستطيع البشر أن يخبروا به لو كانت لهم نفس قوة الركض كالشياطين.
* هكذا انتشرت في الأيام الماضية أقوال الوثنيين الذين أضلتهم الشياطين. على أن ضلالتهم قد وضعت عند حد بمجيء الرب الذي أبطل مكايدهم. لأنها لا تعرف شيئًا من تلقاء ذاتها، بل كلصوص تعرف ما يتصادف أن تعرفه ممن تمر بهم، وهى لا تتنبأ بالحوادث بل بالحري تتكهن.
* ولذلك فإن تكلمت بالصدق أحيانًا وجب أن لا يتعجب أحد من هذا. فالأطباء المحنكون أيضًا إن رأوا مرضًا واحدًا في أشخاص مختلفين كثيرًا ما ينبئون به ويكشفون عنه بخبرتهم وربان السفن والملاحون لتعودهم على الجو يستطيعون بنظرة واحدة بسيطة أن يخبروا عن حالة الجو ويتنبأون إن الجو كان سيصير عاصفًا أو لطيفًا. ولن يستطيع أحد القول إنهم يفعلون هذا بوحي أو إلهام إنما من الاختبار والتمرين.
* وهكذا إن فعلت الشياطين نفس الأمر بالتكهن فلا يتعجب أحد من الأمر أو يصغى إليها. لأنه أية منفعة للسامعين أن يعرفوا منها قبل الوقت ما سوف يحدث؟ أو أية أهمية أن نعرف مثل هذه الأمور حتى ولو كانت المعرفة صحيحة؟ فهي ليست ثمرة الفضيلة، ولا هي أية علامة على الصلاح. لأنه لا يدان أحدًا بسبب ما لا يعرفه ولا يقال عن أحد أنه مبارك لأن لديه علمًا ومعرفة. بل يدعى كل واحد للدينونة في هذه الناحية: هل حفظ الإيمان وأتبع الوصايا بحق؟
* يجب ألا نصلى لكي نعرف المستقبل، أو نطلب هذه المعرفة كأجر لنسكنا، بل لتكن صلاتنا لكي يكون الرب معنا معينًا لنا للنصرة على إبليس، وإن حدث إننا رغبنا مرة في معرفة المستقبل لمجد الله فلنكن طاهري الذهن، لأنني اعتقد أنه إن تطهرت النفس تمامًا، وكانت في حالتها الطبيعية، استطاعت أن ترى أكثر وأبعد من الشياطين لنقاوة نظرها، ولأن الرب يعلن لها، كنفس إليشع التي رأت جيوش الملائكة واقفة بجوارها.
* وحتى إن مدحت نسككم ودعتكم كمباركين فلا تصغوا إليها ولا تكن لكم معاملات معها. بل بالأحرى ارشموا ذواتكم وبيوتكم، وصلوا تجدوها قد انقشعت. لأنها في غاية الجبن، وتخشى جدًا علامة صليب الرب طالما كان الرب قد جردها بالحق وأشهرها جهارًا. أما إذا ثبتت بلا خجل، مغيرة هيئتها وشكلها فلا تخشوها ولا تنزعجوا، ولا تستمعوا إليها كأنها أرواح صالحة. لأنه بمساعدة الله يسهل تمييز وجود الخير أو الشر، فرؤية القديسين لا تقترن بالذهول أو الحيرة " لأنهم لا يخاصمون ولا يصيحون ولا يسمع أحد في الشوارع صوتهم". إذ تأتى بهدوء ورقة حتى أنه للحال يحل في النفس الفرح والبهجة والشجاعة لأن معهم الرب الذي هو فرحنا، فتبقى أفكار النفس غير مضطربة أو منزعجة، إذ تتملكها محبة الإلهيات ومحبة الأشياء العتيدة. ولكن إن كان البعض -وهم بشر- يخافون رؤية الصالحين فإن الذين يظهرون ينزعون الخوف في الحال كما فعل جبرائيل في حالة زكريا وكما فعل الملاك الذي ظهر للنسوة عند القبر المقدس وكما فعل ذاك الذي قال للرعاة في الإنجيل "لا تخافوا" فخوفهم لم ينشأ عن الجبن بل عن الإحساس بحضور كائنات أعلى. إذًا فهذه هي طبيعة رؤية الصالحين.
* أما إغارات الأرواح الشريرة ومظاهرتها فتكون مقترنة بالاضطراب والطنين، وأصوات وصراخ، كالشغب الذي يحدث من الصبية الأردياء. ومن ذلك ينشأ الخوف في القلب والاضطراب في الفكر والكآبة وكراهية الذين يعيشون حياة النسك، وعدم المبالاة والحزن وتذكر الأهل، والخوف من الموت، وأخيرًا الرغبة في الشرور، وعدم احترام الفضيلة، والعادات غير المستقرة.
* لذلك فكلما رأيتم أي شيء وخفتم، فإن انتزع خوفكم في الحال، وحل محله الفرح الذي لا يعبر عنه، والغبطة والشجاعة والقوة المتجددة وهدوء الفكر وكل ما ذكرته سابقًا والجرأة والمحبة من نحو الله، فتشجعوا وصلوا لأن الفرح واستقرار النفس وطمأنينتها تدل على قداسة ذاك الذي حل. هكذا فرح إبراهيم عندما رأى الرب ويوحنا أيضًا فرح عند سماع صوت مريم حاملة الله.
* أما إذا حدث عند ظهور أي شخصية اضطراب، وصخب ومظاهر عالمية، وتهديد بالموت وما إلى ذلك فأعلموا أن هذا هجوم من الأرواح الشريرة.
* ولتكن هذه أيضًا علامة لكم. إذا ما بقيت النفس منزعجة كان هذا ومعناه وجود الأعداء. لأن الشياطين لا تنزع الخوف المنبعث من حلولها كما فعل رئيس الملائكة العظيم جبرائيل مع مريم وزكريا. وكما فعل ذلك الذي ظهر للنسوة عند القبر. ولكنها بالحري كلما رأت الناس خائفين إذ ازدادت في طغيانها لكي يزدادوا خوفًا وفي أخر هجوم تهزأ بهم قائلة خروا واسجدوا. هكذا أضلت الوثنيين، وهكذا اعترفوا بها آلهة، زورًا وبهتانًا. أما الرب فلن يسمح لنا بأن يضللنا إبليس. لأنه كلما صوب نحوه ضلالات كهذه انتهره قائلًا اذهب عنى يا شيطان "لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد".
* إذًا فلنحتقر المضل أكثر فأكثر، لأن ما قاله الرب، فعله من أجلنا حتى إذا ما سمعت الشياطين منا كلمات مماثلة هربت من قبل الرب الذي أنتهرها بتلك الكلمات.
* ثم لا يليق الافتخار بإخراج الشياطين، ولا الانتفاخ بشفاء الأمراض كذا لا يليق أن يرفع من شأن من يخرج الشياطين، أو أن يحقر من شأن من لا يخرجها، بل ليعرف المرء نسك كل واحد، لأن عمل الآيات ليس من اختصاصنا بل هو عمل المخلص، ولذا فقد قال لتلاميذه "لا تفرحوا بهذا إن الأرواح تخضع لكم بل أفرحوا أن أسمائكم كتبت في السموات" لأن كتابة أسمائنا في السموات دليل على حياتنا الفاضلة، أما إخراج الشياطين فهو هبة من المخلص الذي وهبها. أما أولئك الذين افتخروا بالآيات لا بالفضيلة وقالوا " يا رب باسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة " فقد أجابهم " الحق أقول لكم إنى لا أعرفكم"، لأن الرب لا يعرف طريق الأئمة لكن يجب علينا أن نصلى دومًا، كما قلت أنفًا، لكي نحصل على موهبة تمييز الأرواح، حتى كما هو مكتوب لا نصدق كل روح.
* كنت أود أن لا أطيل الكلام، ولا أقول شيئًا من عندي اكتفاء بما ذكرت، ولكن لئلا تظنوا إنني أتكلم كيفما أتفق، أو أخبط عشوائيًا أو تتوهموا إنني أسرد هذه التفاصيل بدون خبرة أو بعيدًا عن الصواب لأجل هذا ولو صرت كغبي إلا أن الرب الذي يسمع يعرف نقاوة ضميري، وإنني لست من أجل نفسي بل من أجل محبتكم لي وإجابة لطلبكم أخبركم مرة أخرى ما رأيته من تصرفات الأرواح الشريرة. فكم من مرة دعتني مغبوطًا فانتهرتها باسم الرب، كم من مرة تنبأت بارتفاع النهر فأجبتها " ما لكم به". ومرة أتتني مهددة، وأحاطت بي مسلحة تمام التسليح. ومرة أخرى ملأت البيت خيلًا وحيوانات برية وزحافات، هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل. أما نحن باسم الرب إلهنا نفتخر، ولدى الصلاة هربت بقوة الرب. ومرة أتت في الظلام وقالت " أتينا لنقدم إليك نورًا يا أنطونيوس. أما أنا فأغمضت عيني وصليت، وللحال أنطفأ نور الأشرار. وبعد ذلك ببضعة شهور أتت كأنها ترنم المزامير وتتحدث بكلمات الكتاب أما أنا فكأصم لم أسمع". ومرة هزت الصومعة بزلزلة، ولكنني استمررت أصلى بقلب لا يتزعزع. بعد هذا جئت ثانية مزمجرة تصفر وترقص. ولكن إذا صليت واضطجعت مرنمًا المزامير لنفسي بدأت للحال تبكى وتنتحب، كأن قوتها قد خانتها. على إنني أعطيت المجد للرب الذي أذلها ودحر قوتها وجرأتها.
* ومرة جاءني شيطان طويل القامة جدًا، وظهر في عظمة وفخامة وتجاسر أن يقول "أنا قوة الله، وأنا العناية الإلهية". كل ما أردته أعطيتك، أما أنا فنفخت فيه ونطقت باسم المسيح، وللحال اختفى هو وكل شياطينه أمام اسم المسيح رغم ضخامة حجمه. ومرة أخرى إذ كنت صائمًا أتى مليئًا بالمكر في شكل راهب ومعه شبه أرغفة ونصحني قائلًا، كل وكف عن أتعابك الكثيرة. أنت أيضًا إنسان، وقد تعرض نفسك للمرض، أما أنا فإذ أدركت حيلته قمت للصلاة، ولكنه لم يحتمل ذلك لأنه انصرف وخرج من الباب كدخان.
* وكم من مرة أظهر في الصحراء ما يشبه الذهب، حتى ألمسه مجرد لمس وأتطلع إليه ولكنني رتلت المزامير ضده فاختفى.
* وكثيرًا ما أراد ضربي بجلدات، فكنت أكرر مرارًا وتكرارًا لن يفصلني شيء عن محبة المسيح". ولم أكن أنا الذي صددتها وحطمت قوتها، بل الرب الذي قال " رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء"، أما أنا يا أبتاي فإذا تذكرت كلمات الرسول حولت هذا تشبيهًا إلى نفسي لكي تتعلموا أن لا تخوروا في النسك أو تخشوا إبليس أو أصاليل الشيطان،.
* وإن كنت قد صرت غبيًا بسرد هذه الأمور فأقبلوا هذا أيضًا كمساعد على نجاتكم وعدم خوفكم، وصدقوني لأنني لست أكذب. مرة قرع واحد باب صومعتي، وإذ خرجت وجدت شخصًا طويلًا كبير الحجم، ولما سألته من أنت، قال أنا الشيطان. ولما قلت لماذا جئت هنا، أجاب لماذا يلومني الرهبان وسائر المسيحيين بغير حق؟ لماذا يلعنونني كل ساعة؟؟ عندئذ أجبت ولماذا تضايقهم؟ فقال لست أنا الذي أضايقهم بل هم الذين يضايقون أنفسهم، لأنني قد أصبحت ضعيفًا. ألم يقرأوا. تلاشت سيوف العدو وأنت أخرجت المدن، ليس لي فيما بعد مكان، أو سلاح أو مدينة. فالمسيحيون منتشرون في كل مكان، وأخيرًا امتلأت حتى الصحراء بالرهبان فليحترسوا لأنفسهم، ولا يلعنونني بغير حق. عندئذ عجبت من نعمة الرب وقلت له أنت كذاب أبدًا، ولا تقول الصدق قطعًا، وهذا قلته بالصدق أخيرًا رغم إرادتك. لأن مجيء المسيح جعلك ضعيفًا، وهو قد طرحك إلى أسفل وجردك. أما هو فقد اختفى إذا سمع اسم المخلص، ولم يستطع أن يحتمل لهيبه.
* وإن كان إبليس قد أعترف بنفسه أن قوته قد تلاشت وجب أن تحتقره شياطينه احتقارًا تامًا. وطالما كان العدو وكلابه ليس لها سوى حيل من هذا القبيل فإننا إذ عرفنا ضعفها نستطيع احتقارها، إذا وجب أن لا تخور عزائمنا، أو يتسرب الجبن إلى قلوبنا، أو نصور المخاوف لأنفسنا قائلين. أنا خائف لئلا يأتي شيطان ويحطمني لئلا يرفعني إلى أعلى ويطرحني إلى أسفل، أو لئلا يثور على بغتة فيزعجني.
* مثل هذه الأفكار يجب أن لا تخطر ببالنا قطعًا، ويجب أن لا نحزن كأننا قد هلكنا. بل بالأحرى لنتشجع ونفرح دومًا واثقين إننا آمنون. لنذكر في نفوسنا أن الرب معنا، الذي طارد الأرواح الشريرة وحطم قوتها. لنذكر ولنضع في قلوبنا أنه طالما كان الرب معنا فأن أعداءنا لن يستطيعوا إيذاءنا. لأنها عندما تأتى تقترب إلينا في صورة تتفق مع الحالة التي تجدنا فيها وتجعل خداعها موافقًا للحالة الفكرية التي تخامرنا. فهي إن وجدتنا في حالة جبن واضطراب اقتحمت المكان في الحال كلصوص إذ تجده بغير حراسة. وتفعل ما تجدنا مفكرين فيه بل وأكثر أيضًا. لأنها إن وجدتنا خائري القلب وجبناء ازدادت في إرهابنا بعنف بتضليلاتها وتهديداتها. وبهذه تتعذب النفس التعسة من ذلك الحين. أما إن وجدتنا فرحين في الرب، متأملين في سعادة المستقبل مسلمين له كل شيء إلى يده، وواثقين أنه لا قوة لأي روح شرير ضد المسيحي ولا أي سلطان على أي واحد قطعًا. فإنها إن رأت النفس متحصنة بهذه الأفكار اندحرت ورجعت إلى الوراء. هكذا عندما رأى يهوذا غير متيقظ أخذه أسيرًا.
* وهكذا إن أردنا احتقار العدو فلنتأمل دومًا في الإلهيات، ولتفرح النفس في الرجاء. وعندئذ نرى فخاخ الشيطان كالدخان، والأرواح الشريرة نفسها تهرب بدلًا من أن تتابعنا، لأنها كما قلت شديدة الخوف جدًا، تتوقع دائمًا النار المعدة لها.
* ولعدم الخوف منها تمسكوا بهذه العلامة الأكيدة: كلما ظهر لكم شبح فلا يستولى عليكم الخوف، بل مهما كانت شخصيته أسألوا أيضًا بجسارة: من أنت، ومن أين أتيت؟ فإن كانت الرؤية للقديسين طمأنوكم وبدلوا خوفكم إلى فرح. أما إن كانت الرؤية من إبليس ضعف في الحال إذ يرى ثباتكم العقلي. لأن مجرد السؤال: من أنت. ومن أين أتيت، برهان على عدم اكتراثكم، بسؤال كهذا عرف ابن نون من هو معينه، كما أن دانيال لم يترك العدو دون توجيه السؤال إليه.
* وبينما كان أنطونيوس يتحدث بهذا الكلام كان الجميع مغتبطين. وفي البعض زادت محبة الفضيلة، وفي الآخرين طرح جانبًا الإهمال والتراخي وتلاشى الغرور من غيرهم. واقتنع الجميع بضرورة احتقار هجمات الشرير وعجبوا بالنعمة المعطاة لأنطونيوس من قبل الرب لتميز الأرواح. وهكذا صارت صوامعهم في الجبال كهياكل مقدسة، مكتظة بجماعة الأتقياء الذين كانوا يرنمون المزامير، ويحبون القرأة ويصومون ويصلون، ويفرحون برجاء الأمور العتيدة، ويكدون في أعطاء الصدقة ويحتفظون بمحبة بعضهم البعض والوفاق بعضهم مع البعض. وحقًا لقد كان ممكنًا رؤية أرض منعزلة مليئة بالتقوى والعدل لأنه لم يكن فيها فاعل شر، أو مظلوم بل بدلًا من ذلك جماهير من النساك، والهدف الوحيد للجميع هو الفضيلة وهكذا كان كل من يرى هذه الصوامع ثانية ويرى مثل هذا النظام الجميل بين الرهبان، كان يرفع صوته ويقول "ما أحسن مساكنك يا يعقوب خيامك يا إسرائيل كأودية ظليلة كجنات على نهر. كخيام أقامها الرب كارزات على مياه".
_____
(*) المراجع:
1- حياة الأنبا أنطونيوس * بقلم البابا أثناسيوس الرسولي.
2 الفيلوكاليا * القمص تادرس يعقوب.
3 أقوال الآباء الشيوخ * منشورات النور.
4 أقوال القديس الأنبا انطونيوس - القمص إشعياء ميخائيل.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-athnasius-fahmy/patrology/anthonius.html
تقصير الرابط:
tak.la/ngt4wm4