هل تعرف من أي شيء يجب أن تهرب؟ اهرب من الأغراض، من الآمال، من الرغبات اهرب من كل أولئك، أن كنت تود حقا أن تصل إلى انطلاق الروح.
اسمح لي يا أخي الحبيب أن أدخل قليلًا إلى قلبك، وأتحدث إليك في صراحة. أن لك آمالًا عرضة تشغلك كثيرًا، وتحتل جانبًا من قلبك بل هي تحتل خيالك أيضًا فتجلس في وحدتك وتحلم بها أحلام اليقظة، تأوي إلى فراشك فترى هذه الآمال في نومك. لك أهداف أنت أدري الناس بها، ولست مستطيعًا أن تنكرها. أنك تود أن تكون شيئًا هامًا، تود أن يعرفك الناس، ويبجلوك. لك آمال في الشهرة والصيت، ولك آمال في السيطرة والنفوذ، ولك رغبات في المال، وفي المركز الاجتماعي، وفي العلم، وفي الألقاب، وفي المستقبل، وفي المظاهر والسمعة. ولك رغبات في المسكن والمأكل والملبس. ولذات الجسد المنوعة. إنك لا تعيش في العالم بل العالم هو الذي يعيش فيك، ويستولي على قلبك وفكرك وخيالك ومشيئتك أيضًا. أما روحك التي تعيش حبيسة في هذا كله فأنها تود الانطلاق من رغبات جسدك، الجسد الذي "يشتهي ضد الروح".
إنك يا أخي الحبيب تشقي بهذه الآمال والأغراض، فهي لا تتحقق جميعها، ولذلك فأنت غير راض. انك تشتاق وتشقي في اشتياقك ولذلك فأنت تعد العدة، وتلتمس الوسائل: تفكر، وتقابل، وتكتب، وتسير وتذهب، وتسعى وتتعب في سعيك ثم أنت تجلس وتنتظر، وقد يضيق صدرك، وتمل الصبر والترجي، ويدركك اليأس أو القلق أو خوف الفشل، فتشفي بانتظارك. وقد ينتهي السعي والتعب إلى لا شيء وتحرم من رغبتك التي تودها فتشقي بالحرمان. وأخطر من هذا كله، فإن آمالك وأغراضك قد تجنح بك عن طريق الصواب فتتعلم بسببها الخداع، أو اللف والدوران، أو التزلف والتملق، أو الكذب، أو ما هو أبشع من هذا... كما قال أحد الحكماء "لابد أن ينحدر المرء يومًا للنفاق، أن كان في نفسه شيء يود أن يخفيه"..
إنك مُتْعَب، وأنا أعرف هذا وأشفق عليك في تعبك. فإلي متى تعيش في جحيم الآمال! والعجيب في رغباتك الترابية هذه أنها تشقيك أيضًا حتى إذا تحققت. فرغبتك عندما تتحقق تتلذذ بها وتقودك اللذة إلى طلب المزيد. وهكذا كما قال السيد المسيح: "مَن يشرب من هذا الماء يعطش" (يو13:4). وعندما يعطش سيسعى إلى الماء مرة أخرى ليشرب، وكلما يشرب يزداد عطشًا، وكلما يزداد عطشًا، يزداد اشتياقًا إلى هذا الماء.
لذلك يا أخي الحبيب أود أن أناقش معك الأمر في هدوء لماذا تتمسك برغبات معينة في العالم، والعالم يبيد وشهوته معه. أنك غريب مثلي على الأرض، وستأتي ساعة تترك فيها هذا العالم وتترك فيه كل ما أخذته منه. عريانا خرجت من بطن أمك وعريانا تعود إلى هناك. ستترك رغمًا عنك كل ما في العالم من عظمة ومال وشهوة وتتوسد حفرة كأحقر الناس، ومهما بلغت في العالم من سطوة أو متعة أو شهرة، فإن هذا سوف لا يمنع جسدك الفاني من التعفن، سوف لا يمنع الدود من أن يرعَى في جثتك حتى يأتي عليها. وستقف بعد هذا كله أمام الله مجردًا من مظاهر العالم المنوعة، لم تأخذ من الدنيا غير أعمالك، خيرًا كانت أم شرًا. فحرام عليك يا أخي الحبيب أن تركز أغراضك وآمالك في هذه الأرض، الأرض التي تنبت لك شوكًا وحسكًا، والأرض التي قبلت دماء هابيل البار، والأرض التي يحفرون فيها أبارًا مشققة لا تضبط ماء. (أر13:2).
إن الآباء القديسين الذين عاشوا قبلنا على الأرض. ولم تكن الأرض مستحقة أن يدوسوها بأقدامهم، هؤلاء جميعًا لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من قداسة. إلا بعد أن فرغوا قلوبهم من حب العالم والأشياء التي في العالم، فلم تعد لهم على الأرض رغبة أو شهوة، ولم يحتفظوا فيها بقنية أو مُلك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). لم يتمسكوا بشيء في العالم لذلك سهل عليهم أن يتركوه، بل اشتاقوا إلى ذلك اشتياقًا.
أما أنت يا أخي الحبيب فلك رغبات أرضية، "وحيثما يكون كنزك يكون قلبك أيضًا". لذلك تعلق قلبك بالتراب ومجد التراب، فقلت قيمة الروحيات في نظرك. أنها التجربة التي حاول بها الشيطان أغراء رب المجد "أخذه إلى جبل عال جدًا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي". وأن ملكت هذه جميعها ماذا تستفيد أن خسرت روحك، روحك الحبيسة في قفص مذهب من الرغبات، وتود أن تنطلق.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/79fgsxr