محتويات |
جاءت كلمة "ديداكيّة" [397] أو "الذيذاخي" Didache عن الحروف اليونانيّة الأولى لعنوان عمل يسمى "تعليم الرب للأمم بواسطة الاثنى عشر رسولًا". يُعتبر أهم وثيقة بعد كتابات الرسل، تكشف لنا عن الحياة الكنسيّة الأولى من كل الجوانب: السلوكي والليتورچي والتنظيمي. كما يقول Quasten: [بين أيدينا ملخّص لتوجيهات تعطينا صورة رائعة للحياة المسيحيّة في القرن الثاني. في الحقيقة نجد هنا أقدم نظام كنسي، نموذجًا قيِّمًا لكل التجمّعات القديمة الخاصة بالنظم والقوانين الرسوليّة؛ هذا النموذج هو بداية القانون الكنسي شرقًا وغربًا [398].]
ويرى F. L. Cross أن هذا الدليل السلوكي التعليمي والنظام الكنسي هو أهم اكتشاف في حقل أدب الآباء في المائة سنة الأخيرة [399].
وقد خدمت الديداكيّة الكثير من الأعمال الليتورچيّة والكتابات الخاصة بالقوانين الرسوليّة الدسقوليّة السريانيّة Didascalia والتقليد الرسولي لهيبوليتس Apostolic Tradition والقوانين الرسوليّةApostolic Consititutions.
كان لها أهميّة خاصة في العصور الأولى حتى حاول البعض ضمها إلى أسفار العهد الجديد، فانبرى الكتَّاب الأوّلون يوضحون عدم قانونيتها، مثل البابا أثناسيوس الإسكندري [400] والمؤرّخان يوسابيوس [401] وروفينوس [402].
وقد استخدم إكليمنضس الإسكندري [403] وإيريناؤس عبارتين يشتم منها معرفتهما بالديداكيّة، وأيضًا واضع كتاب [404]De Alatoribus المنسوب لكبريانوس.
على أي الأحوال لم يتعرّف الدارسون الغربيون على الديداكيّة حتى اكتشفها الميتروبوليت فيلوثيؤس برينيوس Philotheos Bryynnius مطران نيقوميديا [405] عام 1875م ضمن المخطوط القسطنطيني لعام 1056م (حاليًا في أورشليم)، وقام بنشرّها عام 1883م، فأثار ذلك ضجة في الأوساط العلميّة، خاصة في ألمانيا وانجلترا وأمريكا [406] لم يحدث مثلها في أي اكتشاف أدبي سابق.
ليست الديداكيّة عملًا واحدًا قام أحد الكتاب بتأليفه، إنّما هو تجميع حاول جامعه أن يربط أجزاءه معًا فلم يستطع، فقدّم لنا ثلاثة أعمال مع خاتمة، أو قل ثلاثة أقسام بخلاف الفصل الختامي:
القسم الأول: يمثّل الحياة العمليّة السلوكيّة فصل 1-6.
القسم الثاني: يمثّل الحياة الليتورچيّة والسرائريّة فصل 7-10، 14.
القسم الثالث: يمثّل الترتيبات الكنسيّة فصل 11-15.
الخاتمة: عن بَرُّوسيّا الرب أو مجيئه الأخير Parousia فصل 16.
كنا نتوقّع من العنوان "تعليم الرب للأمم بواسطة الاثنى عشر رسولًا" أن تتحدّث الديداكيّة عن العقيدة المسيحيّة والمفاهيم اللاهوتيّة. لكن إذ يخبرنا القديس أثناسيوس الرسولي إنّها كانت تستخدم في تعليم الموعوظين قبل عمادهم، كان غايتها تذكير طالبي العماد -بعدما قبلوا الإيمان- أن يعلنوا إيمانهم بأعمالهم، كأنّها تضع لهم دستور الحياة الجديدة التي في المسيح يسوع: حقًا ان المسيحيّة ليست مجموعة أخلاقيات، لكنها إيمان عملي مُعاش، شهادة حيّة لعمل المسيح في حياة المؤمن عمليًا.
استخدمت الديداكيّة نظام "الطريقتين Two ways" يختار الإنسان طريق الحياة أو الموت. هذا الأسلوب استخدمه اليونان في المجامع الهيلينيّة، واستعارته الكنيسة ليتناسب مع طالبي الإيمان الذين من أصل هيليني، لكن بروح مسيحيّة، مستقاة من "الموعظة على الجبل"، وقد استخدمه اليهود أيضًا [407].
كشفت لنا الديداكيّة عن بعض الطقوس والمفاهيم الكنسيّة للعبادة المسيحيّة:
أ. المعمودية: تتحدّث عن العماد بالتغطيس في ماءٍ جارِ، أي في الأنهار... هذه العادة كانت قائمة في عصر الرسل وما بعدهم مباشرة.
وإذا لم يوجد ماء جارِ يتم العماد بالتغطيس في ماءٍ آخر، وعند الضرورة يمكن سكب الماء على المعمَّد ثلاث دفعات باسم الثالوث القدوس.
ومن الاستعدادات اللازمة للسرّ أن يصوم طالب العماد وخادم السرّ ومن الغير ما استطاع - يومين أو يومًا قبل العماد. ولا تزال هذه العادة ساريّة في الكنيسة القبطيّة، إذ يصوم خادم السرّ والإشبين والمعمَّد اليوم الذي يتم فيه العماد.
ب. الصوم والصلاة: لكي لا نشترك مع اليهود في أصوامهم -يومي الاثنين والخميس- نصوم يومي الأربعاء والجمعة، على أنّه يليق بنا ألاَّ نصوم أو نصلي برياء.
تأمر الديداكيّة المؤمنين أن يصلّوا الصلاة الربانيّة ثلاث مرّات يوميًا.
ج. الإفخارستيا: سبق معالجة هذا الموضوع بشيء من التوسع في كتاب "المسيح في سرّ الأفخارستيا [408]". ووصلنا إلى أن الفصلين 9-10 يصوّران ليتورچيّا الإفخارستيا للمعمَّدين حديثًا، والفصل 15 يتحدّث عن خدمة الإفخارستيا العاديّة التي تقام يوم الأحد [409].
د. الاعتراف: يمارس قبل الاجتماع في الكنيسة (فصل 4، 14)، كما يُلتزم به قبل التمتّع بشركة الأسرار المقدّسة (الإفخارستيا).
ه. الكنسيّات: الكنيسة في مفهوم واضع الديداكيّة "جامعة"، تضم العالم كلّه، من كل شعب وجنس، ليس فقط الذين آمنوا بل والذين يؤمنون يومًا ما... وهو يطلب الصلاة لكي يجمعها الرب من الرياح الأربع.
أما من جهة الرئاسة الكهنوتيّة فلا يشتم منها افتراض أسقفيّة واحدة رئاسيّة في العالم...
كما ركّز على وحدة الكنيسة وقدسيّتها، رابطًا بين وحدتها ووحدة الخبز الأفخاريستي.
تحدّث بشيء من الإطالة عن الإدارة الكنسيّة: الرسل والأنبياء والمعلّمون والأساقفة والشمامسة.
أثار هذا القسم السابق الكثير من الجدل بين الممارستين:
حملت الديداكيّة ككل الاتجاه الإسخاتولوچي (الأخروي) بصورة واضحة، كغيرها من الكتابات التالية لعصر الرسل... إذ كان الكل يتوقّع سرعة مجيء الرب الأخير.
تظهر هذه السمة في الصلّوات الأفخارستيّة الواردة بالديداكيّة، كما خصص الفصل الأخير الختامي بأكمله عن بَرُّوسيّا الرب مع إشارة إلى علامات المنتهى، والتزامنا قبالته.
رفض الدارسون ما افترضه Deuchesne أن العنوان يوحي بأن كاتبها أحد الرسل. فإن العنوان في جوهره لا يشير إلى ذلك، إنّما يقصد واضع الديداكيّة أن يقدّم بصورة واضحة مختصرًا لتعليم السيّد المسيح للأمم كما علمها الرسل.
وإلى اليوم لم يستطع الدارسون التعرّف على كاتبها، بل اختلفوا في تاريخ كتابتها. فمال الدارسون الإنجليز والأمريكان إلى تحديد كتابتها ما بين عامي 80، 120م، وظن Bilgenfeld إنّها كتبت ما بين عامي 160، 190م، بينما حدّد Brynnius, Harnack تاريخها ما بين عامي 120، 160م.
على أي الأحوال رفض الدارسون ما مال إليه القدامى من نسبتها ما بين عامي 70، 90م، ومال الأغلبيّة إلى نسبتها بالشكل الحالي إلى المنتصف الأول من القرن الثاني أو بعد ذلك بقليل [410]، دون أن ينكروا وجود بعض فقرات ترجع إلى سنة 50-70م.
لا يمكن أن ترجع إلى عصر الرسل للأسباب التالية:
1. لا تحمل أي تلميح عن اليهوديّة - المشكلة الرئيسيّة في عصر الرسل. وإن كانت الفصول الستّة الأولى يهوديّة في طبيعتها، لكنها تحمل فكرًا إنجيليًا تقوم على تعليم السيّد المسيح [411].
تجميع مثل هذه القوانين الرسوليّة تعني شيئًا من الاستقرار الكنسي، أي بعد كرازة الرسل.
2.3. خلال التفاصيل الواردة بالديداكيّة يظهر أن عصر الرسل انتهى.
4. اعتمد كثيرًا على إنجيل متى فلا يكون قد جمعها قبل عام 90م.
غير أن الديداكيّة تحمل شهادة داخليّة أنّها جمعت في عصر مقارب جدًا للرسل، نذكر منها:
1. التعميد في ماءٍ جارِ، وذلك في عهد الرسل والقرن الثاني، كما أن الليتورچيّا الواردة في الفصول 7-10 تشير إلى بساطة العبادة التي كانت في القرن الثاني...
2. بساطة اللغة الزائدة، التي اتّسمت بها كتابات ما بعد الرسل مباشرة. كما أن لغتها تكشف عن التحوّل ما بين كتابات العهد الجديد والكتابات الكنسيّة.
3. لا نجد بها آثارًا لنص قانون إيمان أو تقنين للعهد الجديد، ولا يزال الأنبياء يقدّسون الإفخارستيا... الأمور التي تكشف أنّها قبل نهاية القرن الثاني.
4. جاء وضعها في المخطوط ما بين الرسائل الإكلمنضيّة ورسائل أغناطيوس، ربّما أراد الناسخ أن يشير إلى تاريخها ما بين إكليمنضس الروماني وقبل أغناطيوس، خاصة وأن النظام الكنسي الوارد بها يكشف أنّه سابق لما ورد في رسائل أغناطيوس.
يرى البعض أن الكاتب يهودي منتصر إذ يتحدّث عن بكور المحصولات وعن الأصوام اليهوديّة في يومي الاثنين والخميس، كما يحض على تلاوة الصلاة ثلاث مرّات يوميًا، وأنّه يعرف العهد القديم.
رأى البعض أنّها سوريّة الأصل، وذلك بسبب علاقتها بالقوانين الرسوليّة Apostolic Constitutions السريانيّة الأصل.
نسبها البعض لفلسطين بسبب غياب تعاليم الرسول بولس.
ونسبها آخرون إلى بلاد اليونان وآسيا الصغرى.
إلاَّ أن كثيرين [412] رأوا أنّها مصريّة وذلك للأسباب:
1. تشابهها مع رسالة برناباس (100-130)، التي استخدمت أسلوب "الطريقين" في الرسالة (فصول 18-30).
2. وورد أسلوب "الطريقين" في كتابات مصريّة أخرى مثل "النظام الكنسي الرسولي Apostolic Ch. Order" الذي عرف بالنظام الكنسي المصري [413] كما وردت في سيرة الأبنا شنودة (القرن الخامس).
3. من المحتمل -وليس من المؤكد- أن إكليمنضس الإسكندري عرف الديداكيّة [414].
4. أخذ الأسقف المصري سرابيون (القرن الرابع) مقتطفات منها في صلواته الأفخارستيّة.
5. كلمات التمجيد الواردة في الصلاة الربانيّة وفي صلاة الإفخارستيا تقتصر على الكلمتين "القوّة" و"المجد" دون كلمة "الملك". وهذا التمجيد كان شائعًا في مصر أكثر من سواها.
1. رأينا ارتباط الديداكيّة برسالة برنابا في تعليم "الطريقين"، وقد جاءت الآراء المتضاربة: هل أخذت الديداكيّة عن برنابا أم العكس؟ غير أن الرأي السائد أن الاثنين أخذا هذا التعليم من مصدر مستقل شكَّله المسيحيّون بما يليق بالفكر المسيحي، كل واحد حسبما يرى [415].
2. حاول البعض ربط الديداكيّة بكتاب "الراعي" لهرماس، دون أن يصلّوا إلى نتيجة محدّدة، غير أن بعض العبارات جاءت متشابهة في النصّين، لكن لا يوجد إلاَّ عبارتين جاءتا حرفيّتين.
حملت القوانين الرسوليّة Apostolic Constitutions (7:1-32) أكثر من نصف ما ورد في الديداكيّة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. غالبًا بذات الترتيب مع تشابه قوي في العبارات. أمّا العبارات التي لم ترد فعلى أغلب الأحوال كانت قد فقدت ارتباطها بالقرن الرابع [416].
3.
1. جاء النص باليونانيّة كاملًا في المخطوط الذي اكتشفه Brynnuis كما وردت أجزاء منه باليونانيّة في:
أ. حُفظ شيء من الفصلين الأول والثاني على جزء من برديّة وُجدت في البهنسا Oxyrhynehos بمصر مع هتامات؟؟ عديدة أخرى من السنة 1897م وهي تعود إلى القرن الرابع [418]
ب. الفصول الست الأولى جاءت ضمن رسالة برناباس.
ج. الكتاب الثامن من القوانين الرسوليّة Apos. Cons. السوري في القرن الرابع شمل أغلب النص اليوناني للديداكيّة.
2. النصّان اللاتينيان، أحدهما في مخطوط Melk من القرن التاسع/العاشر، يحوي أجزاء منها، ومخطوط ميونخ (Cod. Monac. Lat. 6264) من القرن الحادي عشر.
3. وُجد نص قبطي لبعض أجزاء منها. ترجمة القرن الخامس، على بردي بالمتحف البريطاني (927)، ورد بالمخطوط صلوات على زيت المسحة، غالبًا ما كان يستخدم في سرّي العماد والمسحة (الميرون).
4. توجد مخطوطات بها مقتطفات لترجمات سريانيّة وعربيّة وأثيوبيّة وچورچية [419].
← وفي نهاية الكتاب يوجد نص الديداكية ، وقد نشرناه هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت سابقًا من ضمن كتاب قانون الإيمان للرسل - الديداكية للقمص تادرس ملطي، وستجده كاملًا في الرابط السابق (بشكل أرقام: ر. ص 197 إلخ.).
_____
[397] راجع كتابنا: قانون الإيمان للرسل - الديداكيّة، عام 1975م.
[398] Quasten: Patrology, vol. 1, p. 30
[399] F. L. Cross: The Early Christian Fathers, London 1960, p. 8.
[400] Ep. Fest. 39.
[401] Eusebius: H. E. 3:25:4.
[402] Com. in Symb. 38.
[403] Stromata 1: 20, 100.
[404] Ch. 4.
[405] The MS. Was transferred to the library of the Greek Patriachate at Jerusalem, where it is now (Codes 54).
[406] المطران الياس معوض: الآباء الرسوليّون، ص 56.
[407] F. L. Cross, p. 9.
[408] للمؤلف: المسيح في سرّ الأفخارستيا، 1973م، ص 564-574.
[409] Vokes: The Riddle of the didache S. P. C. K. 1938.
[410] Richardson: Early Christian Fathers, p 161.
[411] Edgar J. Goodspeed: A History of Early Christian Literature, 1966, p. 12
[412] Brynnius, Zahau, Harnack.
[413] للمؤلف: المسيح في سرّ الأفخارستيا، طبعة 1974م، ص 577.
[414] F. R. M. Hitchcock’s article in the Journal of Theological Studies, 1923, 397f.
[415] See Richarson, p. 162.
[417] Quasten: Patrology, vol. 1, p. 37-38.
[418] R. H. Connolly: New Fragments of the Didache, Journ. Theol. Stud., 1924, 151-153.
[419] لغة سكان چورچيا في القفقاس.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/apostolic/didakhy.html
تقصير الرابط:
tak.la/sybf94g