St-Takla.org  >   books  >   pope-sheounda-iii  >   god-nothing-else
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب الله... وكفى - البابا شنوده الثالث

2- ما هي علاقتك بالله؟

 

[1]

ما هي

علاقتك بالله؟

 

أود أن أحدثكم عن موضوع حيوي، هو مركز الله في حياة كل منا... هل توجد علاقة بيننا وبين الله؟ وما طبيعة هذه العلاقة؟ وما عمقها، وما مداها؟ وهل هي علاقة رسمية؟ أم تدخل فيها العاطفة والحب؟ وما مركز علاقتنا بالله إذا ما قورنت بباقي علاقاتنا الأخرى؟

وينبغي أولًا أن نبين أهمية علاقتنا بالله...

هناك ملايين من الناس، في كافة أنحاء الأرض، قد لا يهمك أن تكون بينك وبين أحد منهم علاقة خاصة. أما الله فهو الكائن الوحيد الذي لا بُد أن تكون هناك علاقة بينك وبينه. ولهذه العلاقة ميزات تنفرد بها...

فعلاقتك بالله، هي العلاقة الوحيدة الثابتة والدائمة.

كل من تقابله من البشر، ليست لك به علاقة دائمة. فما أسهل أن تفترق عنه- على الأرض- في وقت ما، ويكون لك طريق في الحياة غير طريقه، وتشعر أنها مجرد علاقة عابرة. كذلك فإن الناس الذين تختلط بهم، غالبًا ما تكون علاقتك بهم محددة في مجال معين لا تتعداه، قد تنتهي بانتهائه. أما الله فعلاقتك به شاملة، ودائمة. وهي ليست قاصرة على حياتك الأرضية...

علاقتك بالله، تشمل أبديتك أيضًا، وفي الحياة الأخرى.

إنها علاقة تبدأ هنا، وتستمر عبر الخلود. فإلى جوار أن الله هو الذي خلقك وأوجدك ويرعاك، فإن في يده أيضًا تحديد مصيرك في الأبدية وعلاقتك به هناك. ولا شك أن هذا يختلف طبعًا عن علاقاتك بالبشر وبباقي الكائنات الأخرى. حتى البشر أو الملائكة الذين ستكون لك علاقة بهم في الأبدية، فعلاقتك بهم أيضًا داخلة في صميم علاقتك بالله.

لذلك افحص علاقتك بالله، واعرف حقيقتها... عمليًا...

 

هنا، ونضع أمامك بعض أسئلة تفصيلية:

1- هل عرفت الله؟ أم لم تعرفه بعد؟ وإن كنت تظن أنك تعرفه، فما طبيعة هذه المعرفة وما عمقها؟ وماذا يكون الله بالنسبة إليك؟

2- هل الله له وجود واضح في حياتك؟ وما نوع العلاقة التي تربطك بالله؟

3- هل له الأولوية في كل اهتماماتك ومشغولياتك ومحبتك؟

4- هل الله ليس فقط هو الأول في حياتك، إنما هو الكل؟ أم هل يوجد شيء أخر في حياتك إلى جوار الله له أهمية. ما هو؟ وهل أنا تجاهد للتخلص في كل ما ينافس الله في قلبك، ليبقى الله وحده؟

إنها درجات في العلاقة بالله. ما موضعك بينها؟

 

St-Takla.org Image: Ancient Coptic icon of Jesus Christ Pantocrator - Ancient Church - Monastery of Saint Pishoy (image 36), Wadi El Natrun, Beheira, Egypt - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org - 6 December 2009. صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة قبطية أثرية تصور السيد المسيح الضابط الكل - الكنيسة الأثرية - دير الأنبا بيشوي (صورة 36)، وادي النطرون، البحيرة، مصر - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت - 6 ديسمبر 2009 م.

St-Takla.org Image: Ancient Coptic icon of Jesus Christ Pantocrator - Ancient Church - Monastery of Saint Pishoy (image 36), Wadi El Natrun, Beheira, Egypt - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org - 6 December 2009.

صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة قبطية أثرية تصور السيد المسيح الضابط الكل - الكنيسة الأثرية - دير الأنبا بيشوي (صورة 36)، وادي النطرون، البحيرة، مصر - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت - 6 ديسمبر 2009 م.

هنا وارجوا أن تأذن لي، بأن أتناول هذه الأسئلة واحدًا فواحدًا، ونناقشها معًا:

1- هل تعرف الله؟ وما عمق هذه المعرفة؟

وقد يبدو السؤال غريبًا. فكل إنسان يظن أنه يعرف الله، وربما يقصد معرفته أنه يوجد إله. ونحن لا نقصد مطلقًا هذه المعرفة العقلية السطحية. فالشيطان أيضًا يعرف أنه يوجد إله. وقد قال القديس يعقوب الرسول " أنت تؤمن أن الله واحد. حسنًا تفعل. والشياطين أيضًا يؤمنون ويقشعرون " (يع9:2)، ويقصد مجرد الإيمان العقلي، الميت، الذي بلا ثمر، وبلا حياة في الله...

وبعد الوجوديين يعرفون أن هناك إلهًا في السماء. ويتهكمون في هذه المعرفة قائلين " فليبق الله في السماء، ويترك لنا الأرض نتمتع بها "...!

أو كإنسان يعرف أن هناك كهرباء، دون أن يعرف ما هي هذه الكهرباء وكيف تعمل، ودون أن يستخدمها في حياته استخدامًا له عمقه ومجالاته الواسعة...

فهل أنت تعرف الله هذه المعرفة العقلية السطحية وكفى؟!

وهل معرفتك لله، ومصدرها الكتب، أو مجرد سماع العظات والتعليم؟ دون أي معرفة اختبارية في حياتك، في داخل قلبك؟ هل تسمع عن الله، كما تسمع عن شعوب بعيدة، لم تراها، لم تختلط بها ولم تعاشرها؟ ! هل تعرف الله الذي يوجد فقط في الكنيسة! فإذا ما خرجت من الكنيسة، لا تعرفه ولا تلتقي به؟ ! هل هو مجرد الإله الموجود في معاهد اللاهوت وفي كتب العقيدة؟!

أسوأ ما في المعرفة العقلية، أن تكون معرفة بلا علاقة!

لذلك، فهي لا يمكن أن تكفي... إنها تشير إلى الله من بعيد، ولكن يبقى أن تقترب إلى الله، وتعرفه عن طريق الخلطة والمعاشرة والحياة معه. وهكذا تعرف الله الذي يسكن فيك، وليس مجرد الله الذي في الكتب. فهل تشعر بوجود الله فيك ومعك؟ أم أنك تحيا المأساة التي عاشها أوغسطينوس في فلسفته، قبل أن يعرف الله معرفة حقيقية. وقد سجل هذه المأساة في اعترافاته، حينما قال للرب " كنت معي. ولكنني من فرط شقوتي، لم أكن معك".. كان الله معه، وهو لا يحسه، ولا يشعر به!

وهنا ننتقل إلى السؤال الثاني من أسئلتنا:

 

2- هل الله له وجود عملي واضح في حياتك؟

هل الله بالنسبة إليك هو مجرد فكرة؟ أم له كيان حقيقي تشعر به، وله وجود عملي في حياتك؟ ما مدى إحساسك بالله ووجوده وفاعليته فيك؟ من يكون الله بالنسبة إليك؟.. إن سؤال المسيح لتلاميذه، ما زال قائمًا أمامنا:

"من تظنون إني أنا؟". ما هو الله في مفهومك؟

وما نوع العلاقة التي تربطه بك؟ هل هي مجرد علاقة الطلب من جانبك، والعطاء من جانبه؟ هل الله هو مجرد (الصراف) الذي يقدم لك المال..؟ أم هو الممون الذي يعطيك ما يلزمك من تموين؟ أم هو مجرد المعين الذي يقدم لك المعونة لراحتك؟ فإن كان لا يقدم هذه المعونة، أعني إن كنت لا تشعر بهذه المعونة، فلا علاقة..! هل مجرد المنقذ الذي يحل مشاكلك؟ فإن بدا أنه لا يحلها، فلا علاقة...!

هل الله بالنسبة إليك مجرد وسيلة؟ أم هو غاية؟

هل هو مجرد وسيلة لتحقيق رغباتك، ولتكوين ذاتك؟ مجرد وسيلة للأخذ؟

وهل توجد علاقة تربطك بالله، خارج مجالات الأخذ منه؟ هل كلما تجلس إلى الله أو كلما تتحدث إليه، إنما يكون ذلك بقصد أن تطلب منه شيئًا؟! أم أنت على العكس، تريد أن تقدم له شيئًا؟ تريد أن تعطيه قلبك، وأن تعطيه حبك، وأن تعطيه وقتك. وتقول له في كل ذلك " من يدك أعطيناك"..

وإن أحببت أن تأخذ من الله: فهل ما تريد أن تأخذه هو المتعة به ومحبته، أم عطاياه المادية وخيراته..؟.. حقًا إن الله يجول يصنع خيرًا... ولكن:

هل أنت تحب الله أم خيراته؟ ذاته أم عطاياه؟

هل أنت تفرح بالرب حينما يعطيك شيئًا، ولا تفرح حينما لا تحس بعطائه؟ إذا فأنت تفرح بالعطية، وليس بالله معطيها! العطية هي هدفك، وليس الله!

متى تحب الله حينما يعطي، وحينما لا يعطي؟ آسف لهذا التعبير... أقصد متى تحب الله حينما يعطي، وحينما تظن أو لا تشعر أنه يعطي... فإن الله بطبيعته، دائمًا يعطي، سواء أحسست أنت ذلك أو لم تحس...

صدقوني يا إخوتي، لو أننا آمنا تمامًا بأن الله يعطي باستمرار، ما كانت الحياة كلها تكفي لشكره..! إننا نعرف فقط عطاياه الظاهرة لنا. فماذا عن عطاياه الخفية؟ ذلك لأن الله إن كان قد أمرنا أن نعطي في الخفاء، فهو أيضًا يعطي في الخفاء... وأن بحثنا عن عطاياه الخفية، لوجدناها فوق ما ندرك، وفوق ما نتصور...

ومع ذلك، لنترك موضوع العطاء حاليًا، فعلاقتنا بالله ينبغي ألا تُبْنَى على العطاء.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

ما هي علاقتك بالله إذن، خارج دائرة احتياجك إليه؟

هل علاقتك به، هي علاقة خوف؟

هل أنت تسير مع الله، وتحاول أن تطيع وصاياه، خوفًا منه... هل أنت مجرد خائف من عقوبته ومن دينونته، خائف من اليوم الذي تقف فيه أمامه ويحاسبك، هل أنت خائف من رقابة الله عليك، هذا الذي يفحص الأفكار والنِيَّات، ويروي ما في داخل القلب، وما في أعماق النفس، وليس شيء مستورًا عنه؟

لا يخاف من عقوبة الله إلا المخطئ. فهل أنت لا تزال في هذه المرحلة، لم تتب بعد ولم تصطلح مع الله؟ وأن كان الكتاب قد قال " بدء الحكمة مخافة الله"، فهل أنت مازلت في بداية الطريق، ولم تصل بعد إلى "المحبة التي تطرح الخوف إلى خارج " كما قال الرسول (1يو18:4).

هل علاقتك بالله، هي علاقتك به كحاكم؟

هو بالنسبة إليك مجرد سيد، وأنت مجرد عبد. والله هو حاكم يحكمك، يصدر لك أوامر ونواهي، تُسَمَّى الوصايا، وأنت مجبر أن تطيعه، فهو القوي الجبار الذي لا منقذ من يده، سواء اقتنعت بوصاياه أو لم تقتنع؟!

إن كنت هكذا، فأنت لا تزال تعيش في عبودية الناموس، ولم تصل إلى حياة النعمة بعد... ولم تصل إلى النقاوة التي تحب بها وصايا الله، ولا تجدها ثقيلة... بل تقول مع داود " وصية الرب مضيئة تنير العينين" (مز19)،

" أحببت وصاياك جدًا" (مز119)، "كلمات حلوة في حلقي، أحلى من العسل والشهد في فمي" (مز119). وأيضًا هل أنت قد وصلت إلى الشعور بأبوة الله لك، على الأقل كلما تصلي وتقول "يا أبانا..."؟

ما هي علاقتك بالله؟ هل هي تحت الاختبار؟

هل أنت لم تصل بعد إلى درجة الثقة بالله وبمحبته ومواعيده، فما تزال تختبر؟ تجربه في هذا الموضوع أو ذاك، وترى كيف سيتصرف معك؟ وهل سيستجيب لك أم لا يستجيب، وتحدد علاقتك به هل هذا الأساس! فتحبه، أو تغضب منه، أو تقاطعه وتقاطع كنيسته وكتابه، وتبدأ تشك في ما تعرفه من صفات..؟!

أنت تعرف أن الله محبة، هل تثق بذلك، وهل تؤمن أن كل أعماله من نحوك مملوءة حبًا، مهما كان ظاهرها؟ ثم ما علاقتك أنت بهذه المحبة؟ هل يملأك الحب نحو الله ونحو الناس، فتشعر أن الله يعمل معك.

الله أيضًا هو الحق. فما علاقتك بالحق؟ إن كنت بعيدًا عن الحق، فأنت بعيد عن الله.

أعود إلى سؤالي مرة أخرى: ما علاقتك بالله؟

هل علاقتك بالله، فيها العشرة والحب والحياة فيه؟

هل تستطيع أن تقول عن الله، كما في سفر النشيد "حبيبي لي، وأنا له" (نش3:6). أنا أعرف أنك مؤمن بالله، على اعتبار أنه الخالق، والسيد، والراعي، والمدبر، والديان، وتنظر إليه هكذا. ولكن هل تنظر إليه أيضًا كمحب للبشر، وحبيب لنفسك بالذات؟ هل وصلت علاقتك بالله إلى مستوى الحب؟

هل محبتك لله، جعلته الأول في حياتك، والوحيد؟

هل تقول لله في مناجاتك: حينما عرفتك يا رب، وذقت محبتك، تضاءلت أمامي كل العواطف الأخرى، وكل المحبات وجدتها خفيفة وسطحية. أما حبك فهو الوحيد الذي يصل إلى العمق.

وهل محبتك لله جعلتك تحب أن تجلس معه، وتحدثه، وأصبحت صلاتك كلها حبًا، متأججة بعواطفك نحو الله. وبالمثل كل الوسائط الروحية الأخرى امتلأت من حرارة هذا الحب الإلهي، ولم تعد مجرد ممارسات روحية، إنما هي تعبير عما في قلبك من عاطفة نحو الله... إن كنت هكذا فطوباك. وإن لم تكن هكذا، فاستيقظ لنفسك، لئلا يوبخك قول الرب " هذا الشعب يعبدني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا". (أش13:29).

إن الله لا يريد في علاقته بك سوى هذا الحب.

انه لم يطلب سوى هذا " يا ابني أعطني قلبك... " والسيد المسيح لما رأى بطرس الرسول بعد القيامة، لم يقل له لماذا أنكرت، أو كيف ضعفت؟ أو ماذا كنت تقصد بالسب واللعن وعبارة لا أعرف الرجل...! إنما سأله سؤالًا واحدًا لا غير هو "أتحبني؟" (يو15:21). فلما أجاب بطرس "أنت تعلم يا رب كل شيء، أنت تعلم إني أحبك"، حينئذ قال له الرب " ارع غنمي... ارع خرافي". إنه لا يريد سوى هذا الحب.

تداريب كثيرة، أم تدريب واحد؟

أتذكر بهذه المناسبة أنه وصلني سؤال، يقول فيه صاحبه: كلما أقرأ الكتاب المقدس، تتكشف لي فضيلة معينة، فأحاول أن أدرب نفسي عليها. ثم أقرأ مرة أخرى، فتتكشف لي فضيلة ثانية، ثم ثالثة... إلى غير انتهاء. وأنا أحاول أن أدرب نفسي على كل هذه الفضائل العديدة... ولكني في حيرة شديدة من كثرتها. فانصحني بماذا أبدأ؟ وماذا يمكنني أن أؤجله، لأنني من كثرة التداريب أنسى بعضها أو أنسى غالبيتها..!

والحقيقة إن محبة الله تشمل كل الفضائل...

إن تدريب الإنسان على محبة الله، يجد داخلها كل شيء.

إنها التدريب الوحيد الشامل، الذي إن أتقنته، لا تحتاج معه إلى تداريب روحية أخرى، على أن تكون محبة حقيقية عميقة، وبفهم... محبة يتعلق فيها القلب بالله، وينسى كل شيء ما عداه، ويفصله على كل رغبة وكل شهوة

إن كل إنسان قد يقول "أنا أحب الله". وربما نسأله سؤالنا السابق: حسن أن تحب الله. ولكن هل الله في قلبك هو الأول، وهو الوحيد؟ هل محبة الله تشبع هذا القلب، فلا يحتاج إلى حب آخر إلى جوار الله؟ واضح أنها لو كانت محبة حقيقية، يشعر فيها الإنسان بالاكتفاء.

إن المحبة الحقيقية لله، تحرر القلب من كل شيء.

محبتنا لله، لها عمقها. وأن وصلت إلى عمق القلب، تطفو كل المحبات الأخرى على السطح، وتملك محبة الله كل القلب. وكل محبة لا تنبع من محبة الله، تخرج خارجًا، ويصير الله هو الكل. وبمحبة الله يتحرر الإنسان...

يتحرر من كل شهوة، ومن كل رغبة، ضد الله.

إن كل شهوة يتعلق بها الإنسان، تربطه بها، وتشده إليها. وبدلًا من أن يمسك هو بها، تسمك هي به. وكما يملكها تملكه. وبهذا يفقد جزءًا من حريته الحقيقية الداخلية، فيما هو مربوط بهذه الشهوة...

وكيف ينحل الإنسان من رباطات الشهوات والرغبات؟

ينحل منها. بمحبة أقوى، تستطيع إن دخلت القلب، أن تحل محل كل محبة أخرى، وتطردها إذ هي أعمق منها. ولا توجد محبة أقوى من محبة الله الحقيقية. إنها تحرر الإنسان من كل رغباته، فينحل من الكل، ليرتبط بهذه المحبة الواحدة...

ويرى أن كل ما هو خارج الله، ليس متعة.

يصير الله هو شهوة النفس، ولا شهوة غيره. لذلك قال أحد القديسين عن التوبة إنها إحلال حب محل حب، الله مكان حب العالم والجسد والمادة... فهل وصلت محبة الله في قلبك إلى هذا المستوى؟ وهل حررتك من أغلال الرغبات.

حتى في الأبدية: النعيم الأبدي هو الله...

لا يوجد نعيم أبدي سوى الله. وكل نعيم غير الله، ليس هو نعيمًا حقيقيًا... إن المتعة الدائمة الكاملة بالله، هي ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن... هذا هو الملكوت الحقيقي، أن نحيا مع الله، وفي الله، إلى الأبد، بلا عائق...

محبة الله تحرر الإنسان من الرغبات، وأيضًا من الخوف:

ونقصد بعبارة "من الرغبات" أنه لا تسيطر عليه أية رغبة وتستعبده. وكما قال القديس بولس الرسول "كل الأشياء تحل لي، ولكن لا يتسلط على منها شيء" (1كو12:6). جميل هو مثل ذلك العصفور، الذي يجد مكانًا فيه حب كثير، فيلتقط منه واحدة أو أكثر، ويطير، دون أن يتعلق بهذا المكان. ولا يختزن، ولا يلتصق بهذه الحبوب...

والذي يحب الله لا يخاف. فالخوف متعلق أيضًا بالرغبات. ان الإنسان يخاف ان كانت هناك رغبة يخشى عدم الوصول إليها، أو هي معه ويخشى ضياعها. أما الذي حررته محبة الله، فمن أي شيء يخاف؟ وعلى أي شيء يخاف؟ لا شيء. لكنه يشدو مع القديس أغسطينوس قائلًا:

[جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهى شيئًا ولا أخاف شيئًا].

حينئذ يمتلئ قلبه قوة، ويقول مع بولس الرسول "مَنْ سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد، أم جوع أم عري، أم خطر أم سيف؟.. ولكننا في هذه جميعها يعظه انتصارنا بالذي أحبنا.." (رو35:8، 37).

ان أولاد الله أحرار من الداخل. حررتهم محبة الله، التي دخلت إلى قلوبهم، ومنحتهم النقاوة والتجرد، ومنحتهم القوة والشجاعة. وقطعت من قلوبهم كل رباطات الرغبات، فتحرروا. صاروا كل منهم حرًا، أكثر من شعاع الشمس، وأكثر من نسيم الهواء...

أيسألك أحد إذن: ما هو الله بالنسبة إليك؟

ولعلك تقول: هو الحبيب الذي "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش6:2) هو العشرة التي لا يمكنني الاستغناء عنها، لأن بها أوجد وأحيا وأتحرك... هو ليس فكرة، ولكنه كيان يسرى في روحي وفي دمي وفي فكري. هو بالنسبة لي كل شيء.

نعم أنت يا رب العامل في، وأنا لا أعمل. أنت المحرك لي وأنت الموجه. أنت تعمل معي، وتعمل بي، وتعمل في... ربما لا أدركك، ولكني أحسك، بإدراك روحي في داخلي، لا يستطيع لساني أن يعبر عنه. أنا أعرفك. ولكن ألفاظ اللغة أضعفت من أن تشرح هذه المعرفة.

أنت يا رب لست خارجي، ولكنك في داخلي.

عندما أذكرك، لست فقط أرفع نظري إلى فوق، فأنت لست فقط فوق في السماء إنما أنت في داخلي، ولست أفتش عنك في الخارج... وصدق ذلك الأديب الذي قال "أغمضت عيني، ولكني أراك". فأنت فوق الحواس، وأنا أتخلص من هذه الحواس قليلًا، لكي أجدك... أما إن أنشغل عقلي بالحواس، بالنظر والسمع واللمس... فقط تعطلني عنك. ليتني يا رب أنسى الكل، وتبقى أنت وحدك، تشبع حياتي.

إن مشكلة أبينا أدم هي الإضافات التي دخلت إلى قلبه وإلى فكره، إلى جوار ربه...

كان الله في البدء، هو كل شيء في حياة أدم.

أما في خطيئته، فقط دخلت إلى قلبه أشياء أخرى.

قدَّم له الشيطان المعرفة لكي يحبها بدلًا من الله.

وقدم له حُب التأله، وأغراه بأن يصير هو وحواء إلهين مثل الله (تك5:3).

وقدم له شجرة وثمرة ليأكل... وأراه الثمرة شهية للنظر، وجيدة للأكل، وبهجة للعيون. وهكذا أدخل إلى حياته شيئًا جديدًا، هو متعة الحواس، وشهوة الجسد بالأكل.

الخلاصة أنه قدم له أشياء جديدة تغزو قلبه، وتستقر فيه إلى جوار الله، أو تأخذ أهمية أكثر من الله، يضحي بالله من أجلها..! وهكذا لم يعد الله هو الكل بالنسبة إلى آدم، بل وجد له في القلب ما ينافسه..!

صار الله بالنسبة إليه، واحدًا من مجموعة!

لم يعد الله يمتلك كل المحبة داخل القلب، إذا دخلت إلى القلب أيضًا ومحبة المعرفة، ومحبة التأله، ومحبة الأكل، وشهوة الحواس.

وباختصار، دخلت {الذات} لتنافس الله في المركز وفي الأهمية... وبتوالي الأيام والأجيال، دخلت إلى قلوب البشر أمور أخرى، على حساب مركز الله في القلب. وكلما كثرت محبة هذه الأمور، قلت محبة الإنسان لله...

وكيف يكون العلاج إذن؟ إنه بلا شك يكون في ترك كل هذه الأمور الدخيلة

فهل أنت مستعد أن تترك... من أجل الله؟

إن الشاب الغني لم يستطع أن يترك أمواله الكثيرة، لذلك ترك الرب ومضى حزينًا..! وأبوانا الأولان آدم وحواء، لم يستطيعا أن يتركا إغراء المعرفة والألوهية، ففقدا صورتهما الإلهية... فهل تتعلم من هذا درسًا في الترك؟

إن لم تستطع أن تترك كل شيء من أجله، فهل يمكنك أن تبدأ بأن تترك العشور والبكور للرب؟ وهل يمكنك أن تترك الانشغال يومًا في الأسبوع لكي تتفرغ فيه للرب؟ وهل يمكن أن تترك بعض الملاذ التي تشغل قلبك، ليصير القلب صافيًا لله؟ سهل عليك أن تفعل هذا. وسهل أن تترك بعض ألوان الطعام، لتعطي روحك في الصوم فرصة ترتفع فيها فوق المادة والجسد، لتتصل بالله...

المهم أن تكون مستعدًا، لأن تترك من أجل الله شيئًا.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

إن كانت لله الأولوية في قلبك، يمكنك أن تترك لأجله.

يمكنك أن تستغني عن أي شيء، سيصغر في قلبك إلى جوار الله وسيفقد قيمته... وستعلم تمامًا أنك لا بُد في يوم ما أن تترك كل شيء، بل تترك العالم كله، حين تفارقه. فالأفضل لك أن تتخلى عن أي شيء بإرادتك، قبل أن تتخلى عن الكل بغير إرادتك... وهذا هو الدرس الذي تعلمه القديس أنطونيوس حينما نظر إلى جثة أبيه وهو ميت...

إن الشيء الذي تتركه لأجل الله، إنما تبرهن بتركه على أن محبتك لله أكثر من محبتك لهذا الشيء. فإن تركت كل شيء وتبعت الله، إنما تبرهن أيضًا على أن محبتك لله، هي أعظم من كل شيء، وتغطى على كل شيء. وماذا أيضًا؟

إن أهم ما تتركه لأجل الله، هو [ذاتك].

كثير من الناس يركزون حول ذواتهم. الذات بالنسبة إليهم هي كل شيء، هي مركز التفكير، وهي محور التفكير. وإذا باهتمام الإنسان ينصب كلية عل ذاته: ما هي حالتي الآن؟ وماذا أريد أن أكون؟ وكيف أكون؟ ومتى..؟ وما هي العوائق التي أمامي؟ وكيف أنتصر؟ وكيف أنال، وأغلب، وأتفوق..؟ وكيف أكون نفسي، وكيف أنميها... مركزي، علمي، سمعتي، ماليتي، متعي، لذاتي، حريتي، كرامتي... مع تفاصيل لا تنتهي.

وتصبح الذات صاحبة المركز الأول، وليس الله...

بل خلال تفكير الإنسان في ذاته، وانشغاله بها، قد ينسى الله... أو لا يعطي الله وقتًا ولا اهتمامًا، لأن الاهتمام كله مركز في ذاته. بل ما أسهل أن يخالف الله ويكسر وصاياه، ليبني ذاته ويسعدها بالطريقة التي يفهمها..!

ماذا كانت مشكلة (الوجوديين) سوى الذات؟

الوجودي يريد أن يشعر بوجوده، ويتمتع بهذا الوجود، حسب اتجاهاته الخاصة، بالاستغراق في ملاذ العالم، وبالحرية الكاملة التي لا يقف أمامها عائق من قانون أو تقليد أو وصية إلهية..! وفي هذا يرى أن الله يحد من استباحة هذه الحرية، فيرفض الله من أجل الذات، لكي تتمتع ذاته بهذا الوجود، متعة ينطبق عليها قول الرب " من وجد نفسه يضيعها" (مت39:10).

وشعار الوجودي هو: من الخير أن الله لا يوجد، لكي أوجد أنا، وأتمتع بالوجود..!

وهكذا نرى أن الذات، قد ضيعت العلاقة مع الله.

إن مثال الوجوديين هو من أسوأ الأمثلة. وقد يشبههم الأبيقوريون الذين غايتهم هي اللذة، وشعارهم: لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت، أي لنمتع ذواتنا بما تشتهيه، قبل أن نموت. ومثلهم كل الذين سلكوا في شهوات الجسد...

على أن هناك أمثلة أخرى، من جهة الذات وسيطرتها:

* هيرودس الملك، الذي عاصر ميلاد المسيح، لم يفرح بالرب وبالخلاص الآتي، وإنما فكر في ذاته، كيف يكون هناك ملك لليهود غيره. وقادته (الذات) إلى أن يأمر بقتل كل أطفال بيت لحم، ليخلو الجو له... بعيدًا عن ملكوت الله!! وهكذا لم يفرح بميلاد الرب، كما فرح به الرعاة والمجوس، الذين لم تكن الذات تعوقهم عن الله!

* وهيرودس الملك، الذي قتل القديس يعقوب الرسول، والذي سجن بطرس... هذا لما جلس على عرشه، منتفخًا بحلته اللاهوتية، يكلم الشعب. وهم يمدحونه قائلين " هذا صوت إله، لا صوت إنسان".. هيرودس هذا، إذ اهتم بمجد ذاته، ولم يعط مجدًا لله... أضاع نفسه، إذ ضربه ملاك الرب، فصار يأكله الدود ومات (أع21:12-23).

* بيلاطس أيضًا، اهتم بذاته، ولم يهتم بالمسيح. ومع تصريحه بأنه "لا توجد فيه علة تستوجب الموت"، إلا أنه حرصًا على مركزه، لئلا يغضب عليه قيصر بسبب اتهامات اليهود، سلم البار للموت وهو حاكم بإطلاقه..! ولم يكتف بهذا، بل حاول أن يبرر ذاته أيضًا، فغسل يده وهو يقول "أنا بريء من دم هذا البار"!

وهكذا استطاعت الذات، أن تسقط الملوك والولاة، وتهلكهم!

والذات أيضًا أسقطت رؤساء الكهنة ومعلمي الشعب:

أولئك الذين أسلموا المسيح للموت حسدًا، إذ خافوا على مراكزهم من شعبيته، وقالوا بعضهم لبعض "أنظروا إنكم لا تنفعون شيئًا. هوذا العالم قد ذهب وراءه" (يو19:12).

ومن أجل الذات التي أتعبها الحسد، بعدوا عن الله تمامًا، وهم رجال دين، فدفعوا مالًا ليهوذا لكي يخون معلمه، وأتوا بشهود زور لم تتفق أقوالهم، ولفقوا للسيد تهمًا هم يعرفون زيفها. ودفعوا رشوة للجند، ليقولوا إن تلاميذه سرقوا الجسد ونحن نيام! كل ذلك فعلوه، وفقدوا الرب بسببه، حفظًا على الذات وعلى الرئاسة والشهرة!!

أما ملكوت الله فلم يفكروا فيه. وكذلك النبوات الخاصة بالخلاص والفداء، ما اهتموا بها. وتعليم الشعب وقيادته إلى الإيمان، أمر تجاهلوه تمامًا! كل ما كان يشغلهم، هو ذاتهم، كيف تكبر أمام الناس، ولو بتحطيم هذا المنافس، ولو كان المسيا.

يبكت كل هؤلاء المعمدان، الذي انطلق من الذات...

كان كل اهتمام يوجه إليه، يتخلص منه، ويوجهه إلى المسيح، قائلًا: يأتي بعدي من هو أقدم مني، من هو أقوى مني، الذي لست أنا مستحقًا أن أنحنى وأحل سيور حذائه...

وقال أيضًا: من له العروس فهو العريس... أنا صديق العريس، أنظر من بعيد وأفرح. ينبغي أن ذاك يزيد، وإني أنا أنقص (يو29:3، 30).

كانت كل الأمجاد تحيط بيوحنا المعمدان، لكنه لم يسمح أن تدخل إلى قلبه. لم تكن ذاته هي التي تشغله، بل كان يشغله الرب وحده، الذي جاء هو ليعد الطريق قدامه، لذلك كان المعمدان يخفى ذاته، ويقول عن السيد "الذي من فوق، هو فوق الجميع"..

محبة الذات تقود إلى الحسد. والحسد يضيع المحبة...

المحبة لا تحسد. وحينما يحسد الإنسان، يتمركز حول نفسه، ويفقد محبته نحو من يحسده. وإذا فقد المحبة، فقد الله، لأن الله محبة... بالحسد، أخوة يوسف باعوا أخاهم كعبد، وخدعوا أباهم. ولم يضعوا الله أمامهم. كل ذلك لأنهم أحبوا ذواتهم، ولم يقبلوا أن يكون يوسف أفصل منهم في شيء...

احترس من أن تنزع المحبة من قلبك بحسد، أو بغضب، لئلا تفقد الله، الذي لا يحل في قلب خال من المحبة. وإن كنت لا تستطيع أن تحب أخاك الذي تراه، فكيف ستحب الله الذي لا تراه؟! (1يو20:4).

الذات تريد أن تكبر، كما تريد أن تلتذ وتتمتع...

والذات في محبتها أن تكبر، تضيع الله من قلبها...

ولعل أبرز مثال لذلك هو سقطة الشيطان، الذي قال في قلبه " أصعد إلى السموات، أرفع كرسي فوق كواكب الله... أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلي (أش13:14، 14). فكانت النتيجة أنه انحدر إلى الهاوية... لقد أرادت ذاته أن تكبر، إلى حد أنها نافست الله نفسه في جلاله الإلهي!

ومن الذين ضيعهم كبر الذات، بناة برج بابل...

أرادت ذاتهم أن تكبر، بحيث ترتفع عن مستوى الذين يعيشون على الأرض. وهكذا قال هؤلاء "هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا.." (تك4:11). فكانت النتيجة أن الله بلبل ألسنتهم وشتتهم. وهكذا كل من أراد أن يرفع ذاته، يوضع إلى أسفل، ويفقد الله.

أما الذي يضع أمامه عظمة الله غير المحدودة، فإن ذاته تصغر في عينيه ويرى أنها مجرد تراب ورماد. فتنسحق ذاته، وفي انسحاقها يرفعها الله، إليه...

والعجيب أن حرب الذات هذه، حاربت القديسين...

آباؤنا الرسل الاثنا عشر، حاربتهم الذات أيضًا! وفكروا من يجلس عن يمين الرب وعن يساره، ومن يكون الأول فيهم؟! والرب الذي يعرف أن الذات تبعد الإنسان عن الله، قال لهم: لا يكن فيكم هذا الفكر. من أراد فيكم أن يكون أولًا، فليكن آخر الكل وعبدًا للكل. وأعطاهم مثالًا، حينما انحنى وغسل أرجلهم. ولما ظهرت ذاتهم في فرحهم بإخراج الشياطين، وقالوا "حتى الشياطين تخضع لنا باسمك" قال لهم الرب "لا تفرحوا بهذا". تكتب أسماؤهم في ملكوت الله.

إن الذات كما حاربت الرسل، حاربت نبيًا عظيمًا كيونان...

كانت تهمه ذاته، ويهمه أن كلمته لا تنزل إلى الأرض. لذلك لما أمره الله أن ينادي على نينوى بالهلاك، وهو يعرف أنه غفور سيرحم، هرب من وجه الله وخالفه. وهكذا اصطدم بالله من أجل ذاته..!

ولما خرج من بطن الحوت، ونادى على نينوى، فتابت ورحمها الله وغفر لها، لم يفرح بهذا الخلاص العظيم، إنما كان مركزًا حول كرامته، حول ذاته، حول كلمته التي قالها ولم تنفذ. وجلس حزينًا. حتى أن الله قال له "هل اغتظت بالصواب؟" فقال "اغتظت حتى الموت". وبهذا كانت مشيئة يونان ضد مشيئته. وكانت عواطفه عكس عواطف الله. وكل ذلك بسبب تمركزه حول ذاته! ولولا أن الله بحث عن هذا النبي، وأصلحه وصالحه، لضاع هو أيضًا..!

كذلك أيوب الصديق الرجل الكامل، حاربته ذاته...

كان رجلًا كاملًا ومستقيمًا، ومشكلته أنه كان يعرف عن ذاته أنه كامل ومستقيم، حتى أنه قال "كامل أنا، لا أبالي"، "إن تبررت بحكم على فمي. وإن كنت كاملًا يستذنبني" (أي 21:9، 20). لذلك قيل عن أيوب "إنه كان بارًا في عيني نفسه" (أي 1:32). وبسبب هذا عاتب الله عتابًا شديدًا جدًا، قال له فيه "لا تستذنبني. فهمني لماذا تخاصمني؟ أحسن عندك أن تظلم؟" (أي 2:10، 3). أما أصحابه فكان شديدًا عليهم أيضًا.

وظل هكذا في التجربة، حتى ناقشه الله، وحرره من ذاته، فاتضع أخيرًا وقال للرب "ها أنا حقير، فبماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي.." (أي 40:40)، "قد نطقت بما لم أفهم، بعجائب فوقي لم أعرفها... أسألك فتعلمني... لذلك أرفض (ذاتي) وأندم في التراب والرماد" (أي 3:42-6). ولما وصل أيوب إلى هذا التراب والرماد "رَفَعَ الرَّبُّ وَجْهَ أَيُّوبَ، وَرَدَّ الرَّبُّ سَبْيَ أَيُّوبَ" (42: 9، 10).

إنها الذات، يجب أن يتجرد الإنسان منها، أو يجرده الله...

وفي قصة أيوب جرده الله من كل شيء، من كل ما كان سببًا في عظمته وفي افتخاره. جرده من المال والغِنى، ومن الأولاد، ومن الصحة. ومن احترام الناس له...جرده من كلمة "أنا"، ومن اعتزازه بفهمه وحكمته، حتى وضع يده على فمه وسكت... ثم ندم في التراب والرماد. وقال للرب " أنا حقير فبماذا أجاوبك؟!". وحينئذ رفعت عنه التجربة.

أرأيت إلى أي حد تبدو خطورة الذات؟!

حينما يثق الإنسان بذاته، بذكائه وتفكيره وقدراته. وربما يعتمد على هذه الذات، وربما يفتخر بذاته وأعماله كما افتخر أيوب (أي 29). وربما بسبب الثقة بالذات، يعتمد الإنسان على فهمه ولا يستشير. وبينما يقول الكتاب

" توجد طريق تبدو للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت" (أم12:14).

اهتمام أبينا يعقوب بذاته، كم جر عليه من تعب؟!

لكي يأخذ بكورية أخيه منه، ويحل محله، كم لجأ إلى الطرق البشرية، وإلى الكذب والخداع، وتعرض لغضب أخيه، وخاف وهرب...

إن الذات إذا أرادت ان تحقق رغباتها، ما أكثر أن تلجأ إلى التحايل وتفقد طابعها الروحي، مبتعدة عن الله. وكثيرًا ما تصير الذات هدفًا.

ويصبح الله مجرد وسيلة، لتحقيق هذه الذات وأهدافها!

فلا يكون الله هو الهدف، الذي يضحى الإنسان بذاته من أجله، بل على العكس تصبح الذات هي الهدف، والله هو الوسيلة التي تبني هذه الذات!!

حتى أن كل الصلوات تصبح مركزة في طلبات الذات، سواء وافقت مشيئة الله أم لم توافق..! وفي هذه الحالة تختفي صلوات التسابيح والتماجيد الخاصة بالله وحده، ويختفي عنصر الحب والمناجاة فيها...

إن السيد المسيح أعطانا مثالًا في التخلي عن الذات...

ففي تجسده، نرى هذه العبارة العجيبة، إنه "أخلى ذاته". وإلى أي حد أخلاها؟ إلى حد إنه "أخذ صورة العبد".. وماذا أيضًا؟ وأطاع حتى موت الصليب" (في 7:2-9).

وعلى الصليب، قدم هذه الذات أيضًا ذبيحة محرقة لإرضاء الله الآب وإيفاء عدله الإلهي. وقدمها أيضًا ذبيحة خطية لكي يخلص البشرية التي حمل خطاياها، ومن أجلها "أحصي بين أثمة".

وفي خلال فترة تجسده على الأرض، قال للآب "لتكن لا مشيئتي، بل مشيئتك" مقدمًا ذاته بالكلية على مذبح الطاعة.

إخلاء الذات تعلمه بولس الرسول من السيد الرب. حينما قال "لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل20:2).

مُنْ يستطيع أن يقول مع القديس بولس "لا أنا"..

لذلك ليتنا نعيد النظر في علاقتنا بالله وتقييمها. ونحاول أن يكون الله بالنسبة إلينا هو الكل. له كل عواطفنا، وكل قلبنا وحبنا، تتركز فيه كل آمالنا، ونفضله على كل شيء، ونجد لذتنا فيه. فنتغنى مع أرمياء النبي ونقول" نصيبي هو الرب، قالت نفسي. من أجل ذلك أرجوه" (مر24:31).


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-nothing-else/relationship-with-god.html

تقصير الرابط:
tak.la/kvn44g3