St-Takla.org  >   books  >   pope-sheounda-iii  >   god-nothing-else
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب الله... وكفى - البابا شنوده الثالث

4- معك لا أريد شيئًا على الأرض

 

[3]

معك لا أريد شيئًا على الأرض (مز25:73).

 

الذي يحب الله بعمق، يصل إلى درجة الاكتفاء بالله...

الله يملأ قلبه وفكره وكل إحساسه ومشاعره، ويشبعه، فيشعر بالاكتفاء، ويقول مع داود " فلا يعوزني شيء" (مز1:23).. ويشعر أنه لا يستطيع أن يضيف شيئًا في قلبه إلى جوار الله. فيعيش سعيدًا مع الله، ويقول له في حب "معك لا أريد شيئًا على الأرض".

بهذا المثال عاش آباؤنا القديسون، وقد أشبع الله حياتهم.

 

1- ولنأخذ داود النبي كمثال:

كان ملكًا، بكل ما يحيط الملك من سلطة وعظمة في ذلك الزمان. وكان قائدًا للجيش، وقاضيًا للشعب، ورب أسرة كبيرة. وكان محترمًا من الكل، ومسيحًا للرب. ويبدو أنه ما كان ينقصه شيء من خيرات الدنيا ومتعها... ومع ذلك ما كان شيء من هذا يشبع قلبه حقًا، بل يلقى بكل هذا وراء ظهره ويقول:

"واحدة طلبت من الرب وإياها ألتمس.." ما هي هذه الواحدة التي تنقصك أيها الملك العظيم مسيح الرب؟ يقول "واحدة طلبت من الرب وإياها ألتمس، أن أسكن في بيت الرب... وأتفرس في هيكله" (مز4:27).. هناك في هذا الموضع المقدس، كان يطلب الرب ويقول:

"طلبت وجهك، ولوجهك يا رب ألتمس.لا تحجب وجهك عني" (مز8:27، 9).

أهذه طلبتك الوحيدة؟ وماذا عن الملك والجيش والقضاء والأسرة والغنى؟ كلا يا رب، معك لا أريد شيئًا على الأرض "يا الله أنت إلهي إليك أبكر، عطشت نفسي إليك" (مز1:63) "التصقت نفسي بك"،"باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم"،"رحمتك أفضل من الحياة. شفتاي تسبحانك"، "كنت أذكرك على فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك" (مز63).

St-Takla.org Image: A monk walking in the monastery - Monks and people at Saint Paul Coptic Orthodox Monastery, Red Sea, Egypt (image 13) - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org - July 2010. صورة في موقع الأنبا تكلا: راهب يمشي في الدير - رهبان وأشخاص من دير الأنبا بولا، البحر الأحمر، مصر (صورة 13) - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت - يوليو 2010 م.

St-Takla.org Image: A monk walking in the monastery - Monks and people at Saint Paul Coptic Orthodox Monastery, Red Sea, Egypt (image 13) - Photograph by Michael Ghaly for St-Takla.org - July 2010.

صورة في موقع الأنبا تكلا: راهب يمشي في الدير - رهبان وأشخاص من دير الأنبا بولا، البحر الأحمر، مصر (صورة 13) - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت - يوليو 2010 م.

إنه الحب الذي يملأ القلب، يقول فيه:

"محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز119).

وماذا عن مشغولياتك يا داود؟ إنها لا تشغلني عنك يا رب. "سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك" (مز119)،"في نصف الليل نهضت لأشكرك"، "سبقت عيناي وقت السحر لأتلو في جميع أقوالك"،"كلمات حلوة في حلقي، أحلى من العسل والشهد في فمي" (مز119).

حقًا إن الذي يحب الله، يصغر كل شيء في عينيه...

إن داود لا يغريه قصره ولا عرشه، بل يقول الرب " مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب... طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد" (مز1:84، 4)، "فرحت بالقائلين لي إلى بيت الرب نذهب" (مز1:122)،"اخترت لنفسي أن أطرح على عتبة بيت الرب" لماذا؟ "لأن يومًا صالحًا في ديارك خير من آلاف" (مز10:84).

حقًا "معك لا أريد شيئًا على الأرض".. إن هذه العبارة هي اختبار حقيقي للقلب ومدى علاقته بالرب. لنأخذ مثالًا آخر:

 

2- أبونا إبراهيم، بهذا الاختبار كانت دعوته...

لما دعاه الله، قال له "اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك" (تك1:12). وترك إبراهيم وطنه وعشيرته وبيت أبيه، وقال للرب في قلبه "معك لا أريد شيئًا على الأرض". وخرج وراء الرب، وهو كما يقول الرسول"لا يعلم إلى أين يذهب" (عب8:11)، يكفيه أنه كان ذاهبًا وراء الرب.

لم يهتم بالمكان الذي يذهب إليه، ما هو وأين هو، إنما كان تفكيره في الرب الذي يذهب معه.

لما صحبه تارح أبوه، تعطل بسببه بعض الوقت في حاران (تك31:11). ولما صحبه لوط إبن أخيه، حدثت مخاصمة بين رعاة هذا وذاك. ولما فارقه واختار أخصب أرض في المنطقة بدأت البركة تتضاعف على ابرآم.

كيف تعيش يا إبرآم، وقد أخذ لوط أرضًا "كجنة الله كأرض مصر" (تك11:13). وترك لك القفر؟ يقول إبرآم: أنا مع الله، لا أريد شيئًا على الأرض. يكفيني الرب ونعمته. وفعلًا باركه الرب، وقال له "ارفع عينيك وانظر... جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها.." (تك14:13، 17). وعاش ابرآم غريبًا، عقيمًا، ولكن مع الرب غربته كانت تتمثل في حياة الخيمة، وعلاقته بالرب كانت تتمثل في المذبح الذي يبنيه في كل موضع.

وهذا الرجل الغريب، المكتفى بالرب، هو الذي خلص لوطًا من السبي (تك14)، واستقبله ملك سادوم، وملك ساليم، ملكي صادق الذي باركه (تك18:14).

ولكن هل حدث في وقت ما، أن مبدأ "معك لا أريد شيئًا على الأرض"اهتز في قلب أبينا إبرآم ولو قليلًا؟ نعم، حدث أنه اشتهى أن يكون له إبن...

ولما اشتهى أن يكون له إبن، وقع في تجارب...

تجربة هاجر (تك16)، وتجربة قطورة (25). وحتى لما ولد له إسحق من سارة، أتته تجربة أخرى، إذ اختبره الله فيه، وقال له "يا إبراهيم... خذ ابنك وحيدك الذي تحبه، إسحق... وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك" (تك2:22). وإذا بإبراهيم الذي عاش بمبدأ "معك لا أريد شيئًا على الأرض"، إبراهيم الذي يحب الله الحب كله، أخذ إسحق ابنه، وبكر صباحًا جدًا

وأخذ معه الحطب والسكين. وربط ابنه فوق الحطب، ورفع السكين ليقدمه ذبيحة... لذلك بارك الله هذا الإنسان الذي أحبه أكثر من ابنه الوحيد، وبنسله تباركت جميع قبائل الأرض.

كان قلب إبرآم مركزًا في الله، أكثر مما في إسحق...

قال السيد المسيح"... ومَن أحب ابنًا أو ابنة أكثر مني، فلا يستحقني" (مت37:10)، ونفذ أبونا إبراهيم هذه الوصية قبل أن يقولها المسيح بأجيال طويلة...

كان الله بالنسبة إليه أكثر من العشيرة والوطن والأهل والابن الوحيد... إنها فضيلة للإنسان أن يحب أهله، ولكنهم لا يكونون شركاء الله في قلبه.

داخل محبة الله، نعم. ولكن إلى جوارها، لا...

الإنسان الروحي يحب جميع الناس كجزء من محبته لله. ولكنه لا يحب أحدًا، يشارك الله في حبه، أو ينافس الله في حبه، أو يجلس في القلب إلى جوار الله!

الله لا ينافسه أحد في الحب، ولا ينافسه شيء...

ولذلك فالمحبة الحقيقية نحو الله يلزمها التجرد. وفي هذا قال الكتاب "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب... والعالم يمضي وشهوته معه" (1يو15:2، 17). وقيل أيضًا "محبة العالم عداوة لله" (يع4:4)، لا يستطيع أحد أن يعبد ربين أو يخدم سيدين. إما الله، وإما العالم... وقد قال الكتاب في ذلك:

"أية شركة للنور مع الظلمة" (2كو14:6).

الله هو النور الحقيقي. وكل ما هو خارج الله ظلمة. كل ما يتعارض مع الله ومحبته ظلمة. ونحن قد دعينا أن نكون أبناء النور، لا نشترك في أعمال الظلمة...

والظلمة متفاوتة في درجاتها، أبشعها الخطية. على أن التفاهات أيضًا والماديات، إن كانت تبعدنا عن الله فهي ظلمة أيضًا، ليس لنا أن ندخلها إلى قلوبنا.

ويبقى الله وحده، ومعه لا نريد شيئًا على الأرض. نحارب كل شهوة وكل فكر فيهما تعطيل لمحبة الله. ويبقى الله وحده، كما تقولون في الترتيلة:

ليس لي رأى ولا فكر ولا شهوة أخرى سوى أن أتبعك.

لهذا فأولاد الله، قد يملكون المال، ولكنه لا يملكهم...

قد يستعملون العالم، وكأنهم لا يستعملونه (1كو31:7)، "لأن هيئة هذا العالم تزول". فلا يوضع العالم إلى جوار الله.

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

3- مثال آخر نذكره هنا، هو لوط، ثم امرأته...

لوط لم يصل إلى التجرد الذي يحب فيه الرب من كل القلب، والذي يقول فيه"معك لا أريد شيئًا من العالم". لذلك إختار الأرض المشبعة، ولم يختر المكان الذي يستطيع فيه أن يحيا مع الله! فماذا كانت النتيجة؟ كانت أنه سُبِيَ (تك14)، وفقد كل أملاكه. تم أنقذه إبرآم. وأيضًا لوط لم يتعلم درسًا، وكان البار يعذب نفسه يومًا فيومًا بمناظر الأشرار. وأخيرًا فقد كل شيء في حرق سادوم.

وهنا ظهرت توبة لوط ورجوعه إلى الله. فلما دعاه الملاكان أن يخرج من المدينة ويهرب إلى الجبل (تك19)، لم يقل أملاكي وأغنامي ومالي وأنسبائي، إنما رضخ أخيرًا وقال للرب "معك لا أريد شيئًا من العالم". وخرج من سادوم صفر اليدين لا يملك شيئًا، يكفيه الرب الذي سيبدأ معه من جديد، من لا شيء...

أما زوجة لوط، التي لم تدخل إلى قلبها عبارة"معك لا أريد شيئًا من العالم".

فقد نظرت إلى الوراء، إلى العالم الذي تعلق به قلبها، فصارت عمود ملح... صارت درسًا لكل من يضع إلى جوار الله شهوة أخرى يتعلق بها...

 

4- من الأمثلة الجميلة: تلاميذ المسيح ورسله...

سمعان وأندراوس اللذان"تركا شباكهما وتبعاه" (مر18:1). ويوحنا ويعقوب إبنا زبدي، اللذان" تركا أباهما زبدي في السفينة مع الأخرى وذهبا وراءه" (مر20:1). ومتى الذي ترك مكان الجباية، ولم يحفل بمسئولياته.والباقون الذين تركوا بيوتهم وزوجاتهم. وقلب كل منهم يردد عبارة "معك لا أريد شيئًا على الأرض". وبولس الرسول، الذي ترك مركزه الكبير وسلطته، وتحمل الآلام لأجل المسيح قائلًا: "خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح"، هكذا أيضًا كانت تربطه بالرب عبارة "معك لا أريد شيئًا على الأرض".

كلهم، بعد أن تركوا كل شيء، لم يندموا على شيء...

شعور كل منهم: كيف أريد شيئًا من العالم، بعد أن أشرق على قلبي هذا النور العظيم، وبعد أن تعرفت على الرب، الذي هو أسمَى من كل شيء، الذي وهبته قلبي، فصرت أنا كلي له، وصار هو لي.

 

5- مثال آخر، هو الرهبان، وتاجر الجواهر...

الرهبان الذين عاشوا حياة التجرد الكامل، حياة النسك والزهد، لا يملكون شيئًا، بل قد نذروا الفقر الاختياري، وارتفعوا فوق مستوى البيت والأولاد، وفوق مستوى المادة، وجالوا في البراري والقفار، معتازين.

هؤلاء من عظم محبتهم للملك المسيح، قالوا له "معك لا نريد شيئًا من العالم"..

منهم أمراء تركوا الملك، مثل الأميرين مكسيموس ودماديوس. وأصحاب مناصب كبيرة تركوا مناصبهم، مثل الأنبا أرسانيوس معلم أولاد الملوك. وأغنياء تركوا غناهم مثل العظيم الأنبا أنطونيوس. ومتزوجون تركوا زوجاتهم مثل الأنبا آمون والأنبا بولس البسيط... كلهم قالوا للرب "معك لا نريد شيئًا على الأرض"..

لعل هذا يذكرنا بمثل التاجر الذي قال عنه السيد المسيح "يشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها" (مت45:13، 46). هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن، هي الحياة مع الله، وعشرته والتمتع به، التي من أجلها يبيع الإنسان الحكيم كل ما يكون له، ويقول للرب يكفيني أنت، معك لا أريد شيئًا على الأرض...

ما أجمل المبدأ الرهباني: الانحلال من الكل، للارتباط بالواحد.

أي أن القلب ينحل من كل شيء، ومن كل أحد، لكي يرتبط بالواحد الذي هو الله. وهذا الواحد، هو الذي يشبعه ويملأ كل كيانه، ويكون سبب سعادته وفرحه. هكذا عاش الآباء، بفكر منشغل بالله وحده...

 

6- مثال مريم ومرثا...

زارهما السيد المسيح في بيتهما. فانشغلت عنه مرثا بشئون الضيافة، وهي تظن أنه تفعل خيرًا من أجله. أما مريم فجلست عند قدميه، تتأمله وتستمع إليه، مركزة كل عواطفها فيه، ولسان حالها يقول "معك لا أريد شيئًا على الأرض". وقد طوبها السيد المسيح بقوله عنها إنها اختارت النصيب الصالح. أما مرثا فقال لها الرب:أنت تهتمين وتضطربين لأجل أمور كثيرة، والحاجة إلى واحد (لو41:10). لعل مرثا ينطبق عليها قول ذلك الأديب الروحي:

"قضيت عمرك تخدم بيت الرب، فمتى تخدم رب البيت" حتى الخدمة لا يجوز أن تشغلنا عن عشرتنا بالرب، كما سنشرح في صفحات مقبلة إن شاء الله. أما الآن فننقل إلى مثل آخر هو:

 

7- موسى النبي، بين القصر والبرية...

موسى النبي كان يعيش في قصر ملكي، وكان معتبرًا أحد الأمراء، إبن ابنة فرعون، وكان يحيط به الغنى والجاه والسلطان. ولكن كل ذلك لم يدخل إلى قلبه، بل كان قلبه متعلقًا بملكوت الله. لذلك وضع في قلبه أن يعيش للرب ويقول له "معك لا أريد شيئًا من العالم" "حاسبًا عار المسيح غِنَى أعظم من خزائن مصر"، "منفصلًا بالأحرى أن يذل مع شعب الله، على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية" (عب25:11، 26). وهكذا عاش مع الله كراعي غنم في البرية، وكتائه مع الشعب في سيناء، تاركًا متع الحياة في قصر فرعون، فمع الله ما كان موسى يريد شيئًا على الأرض... لذلك استحق أن يكون كليم الله، وأمينًا على كل بيته (عد7:12)، "فمًا إلى فم وعيانًا يتكلم الله معه، وشبه الرب يعين". هكذا صارت علاقته مع الله...

ولأنه مع الله لم يكن يريد شيئًا على الأرض، لهذا صار له الله نفسه، يتحدث معه أربعين يومًا على الجبل، ويصيره وسيطًا بينه وبين شعبه، ويقبل شفاعته فيهم، بل يجعله ينير معه على جبل طابور في التجلي.

 

8- مثال آخر نتعلمه من أخطاء سليمان ورجوعه...

كان سليمان ملكًا عظيمًا جدًا، أعطاه الرب عظمة وجلالًا ملكيًا أكثر من جميع الذين كانوا قبله في أورشليم، ومنحه حكمة. ولكن سليمان على الرغم من حكمته لم يقل للرب "معك لا أريد شيئًا على الأرض"، بل إنه على عكس ذلك قال "بنيت لنفسي بيوتًا، غرست لنفسي كرومًا، عملت لنفسي جنات وفراديس... عملت لنفسي برك مياه... قنيت عبيدًا وجواري... جمعت لنفسي أيضًا فضة وذهبًا وخصوصيات الملوك والبلدان، واتخذت لنفسي مغنيين ومغنيات، وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات... ومهما اشتهته عيناي، لم أمسكه عنهما" (جا4:2، 10).

وفرح سليمان بكل تعبه هذا، الذي لم يكن مصدره الله، ولا محبته وعشرته. وفي كل ذلك أخطأ، حتى أصبح موضوع خلاص سليمان تحيطه علامة استفهام كبيرة..! وماذا عن كل تعبه؟ لقد صار كل هذا التعب باطلًا، وذكرتنا قصته بلوط في سادوم.

حصاد السنين كلها، الذي أضاعه لوط في نار سادوم: السعي وراء الأرض المشبعة، ولو أدى ذلك إلى ترك مذبح إبراهيم وعشرته، الكد والكفاح من أجل الثروة، احتمال البيئة الفاسدة وعثراتها والتزاوج مع الأشرار... كل ذلك حرقته النار، وخرج منه لوط بلا شيء... تمامًا مثل كل تعب سليمان، الذي ختمه بعبارة " الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس".. حقًا إن العلاقة مع الله هي الثابتة والخالدة، وهي النافعة في هذا العالم وفي العالم الآخر. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!

 

9- إن أعظم مثال بشري نضعه لعبارة "معك لا أريد شيئًا على الأرض" هو مثال آبائنا الشهداء...

الذين أحبو الله، ليس فقط أكثر من كل متع الأرض، وإنما أكثر من الحياة ذاتها، فقدموا حياتهم من أجله، واثقين بأن هذه الحياة لها امتداد معه هناك في الأبدية. وهكذا تركوا الدنيا كلها بكل ما فيها، ومعه لم يريدوا شيئًا على الأرض، ولا حتى أن يعيشوا فيها...

إن الذي يحب الله، ويكتفي به، يكون مستعدًا أن يترك أي شيء من أجله، أو كل شيء من أجله...

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

10- والذي يترك من أجل الرب، يعوضه الرب أضعافًا...

هوذا الرب يقول"كل من ترك بيوتًا، أو أخوة أو أخوات، أو أبًا أو أمًا، أو امرأة أو أولادًا، أو حقولًا، من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف، ويرث الحياة الأبدية" (مت29:19). هذا من جهة الجزاء. على أن الذين يتركون شيئًا من أجل الرب، إنما يتركونه ليس من أجل الجزاء، إنما من أجل محبتهم للرب التي ملكت كل قلوبهم، بحيث زهدوا كل شيء، وقالوا للرب: معك لا نريد شيئًا على الارض.

 

11- هذه العبارة ليست في مجال الحب فقط، إنما المعونة أيضًا...

بهذه العبارة استطاع يعقوب الضعيف الخائف، أن يتقابل مع أخيه عيسو القوي العنيف، الذي كان معه أربع مئة رجل (تك6:32). أما يعقوب فلم يكن معه مثل هذا الجيش، وليس غير نسائه وأولاده وعبيده وإمائه. ولكن كانت له هذه الصلاة "نَجِّني من يد أخي، من يد عيسو، لأني خائف منه... وأنت قلت لي: إني أحسن إليك، وأجعل نسلك كرمل البحر" (تك11:32، 12). أنا أعتمد على قوتك أنت يا رب، ومعك لا أريد شيئًا على الأرض.

الإنسان الروحي يرى أن الله هو راعيه وحاميه وحافظه:

إن أحاطت به مشكلة، يحيلها إلى الله، فالله هو الذي يحل مشاكله، وليس هو. يقول للرب: من أنا، وما هي قوتي، وما هو فهمي حتى أحل مشاكلي؟ أنت يا رب تعرف مشاكلي أكثر مني، تعرف الخفيات والظاهرات، المشاكل الواضحة لي، والمشاكل المستترة عني، والمشاكل المقبلة في الطريق.

بحكمتك يا رب تستطيع أن تحل كل مشكلة. وبمحبتك تريد، لأني أثق تمامًا أنك تحبني أكثر مما أحب نفسي، وتحرص على أكثر مما أحرص على ذاتي. أنا طفل أمامك "وحافظ الأطفال هو الرب" (مز6:116). لذلك أترك كل شيء في يديك، وأستريح بالإيمان، واثقًا أنه عندك حلول كثيرة، وواثقًا بأنه "إن لم يبن الرب البيت، فباطلًا تعب البناءون. وإن لم يحرس الرب المدينة، فباطلًا سهر الحراس" (مز1:127).

ما دمت يا ربي ترى تعبي، فهذا يكفيني. أنت يا ضابط الكل، الذي تحفظ العدل على الأرض، وأنت مريح التعابَى، تحمل أوجاعنا وآلامنا. لست أشغل نفسي مطلقًا بمشاكلي، إنما أتركها في يديك"ومعك لا أريد شيئًا على الأرض".

الذي يلتقي بالله، لا يحتاج لقوة خارجية. قوته هي الله...

لذلك فهو يقول مع المرتل "قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا لي خلاصًا" (مز14:118). قوته هي الرب نفسه. لا أسلحة العالم، ولا المعونة البشرية " فالاتكال على الرب خير من الاتكال على البشر" (مز118).

ولهذا يقول المرتل أيضًا "إلهنا ملجأنا وقوتنا، ومعيننا في شدائدنا التي أصابتنا جدًا... الرب إله القوات معنا. ناصرنا هو إله يعقوب" (مز1:46، 7).

هذا الذي يرى أن قوته هي الله نفسه، لا يتكل على ذاته، على مواهبه وذكائه وإمكانياته، ولا يتكل على ذراع بشري، أو على حيل بشرية، إنما يكفيه الله وحده، يحارب به، وينتصر به، ويقوده الرب في موكب نصرته.

لا يفكر كيف يتكلم، فالله هو الذي يتكلم على فمه"لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم" (مت20:10). ولستم أنتم الذين تدافعون عن أنفسكم، بل "قفوا وانظروا خلاص الرب. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر13:14، 14). الرب هو قوة لكم. وهو خلاص لكم. والذي يكتفي بالله، لا تعوزه قوة أخرى. بل يقول للرب "معك لا أريد شيئًا على الأرض".

 

12- وبهذا المبدأ تقدم داود الصبي لمحاربة جليات الجبار...

شاول الملك قدم لداود الأسلحة والملابس الحربية، ولكنه تركها ولم يستعملها. وتقدم إلى جليات قائلًا "أنت تأتي إليَّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1صم45:17). نعم يا رب، أنا لا أملك أسلحة مثله، ولكن معي اسمك وقوتك. ومعك لا أريد شيء على الأرض... وحارب داود بهذه القوة الإلهية التي أغنته عن كل أسلحة الحرب، لأن الحرب للرب (1صم47:17). وهو الغالب في الحروب.

 

13- وجدعون في هذا الأمر، علمه الرب درسًا...

لقد جمع 32 ألفًا لكي يقاتل جيش المديانيين، ولكن الرب رأى هذا العدد كثيرًا، لئلا الشعب إذا انتصر، يظن أنه بقوته وعدده قد انتصر وليس بالرب (قض2:7). وهكذا ظل الرب ينقص العدد وينقيه حتى وصل إلى ثلاثمائة فقط، حارب بها جدعون وغلب، لكي يعرف أن القوة هي من الله، وما دام الله معه، فلا يحتاج إلى قوة جيش لكلا ينتصر، إنما معه لا يريد شيئًا على الأرض، لا يعد قوة بشرية إلى جوار الله.

 

14- ومع الله أيضًا، لا نحتاج إلى حكمة بشرية...

كثيرًا ما يعتمد الحكماء على حكمتهم وفهمهم، وليس على الله الذي يقول "وعلى فهمك لا تعتمد" (أم5:3). لذلك إن سرت مع الله، فلا تبحث عن ذكائك أو حكمتك، لأن الله "اختار جهال العالم، ليخزي بهم الحكماء. واختار ضعفاء العالم ليخزي بهم الأقوياء... لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه (1كو27:1-29).

إن داود النبي قال"ومعك لا أريد شيئًا على الأرض"، قال قبل ذلك مباشرة، في نفس المزمور"وأنا بليد ولا أعرف. صرت كبهيم عندك، ولكني معك في كل حين. أمسكت بيدي اليمنى. برأيك تهديني. وبعد إلى مجد تأخذني" (مز22:73، 24). ليس حكمتي هي التي تهديني إليك، إنما أنت تمسك بيدي، وبرأيك تهديني. ومعك لا أريد شيئًا...

 

15- مرقس الرسول في كرازته، كان مثالًا أيضًا...

جاء يكرز في مصر، بلا أية معونة بشرية، وبلا أية إمكانيات. لم تكن له فيها كنائس، ولا مؤمنون، ولا أية إمكانيات مادية. وعلى العكس كانت هناك عوائق من الديانات الراسخة، ومن الفلسفات القوية، ومن السلطة الرومانية... ولكن مار مرقس الذي دخل الإسكندرية ماشيًا، وبحذاء مقطوع، قال للرب في كرازته "معك لا أريد شيئًا على الأرض".. وقد كان. وبمعونة الرب وحده، تمم هذا الرسول خدمته، وكرز بالكلمة، وأوجد لله شعبًا...

 

16- وكذلك أيضًا الرسل الاثنا عشر في خدمتهم...

أرسلهم الرب بلا كيس ولا مزود، بلا ذهب ولا فضة ولا نحاس في مناطقهم (مت10). ومع ذلك لم يعوزهم شيء. لكي يستطيع كل رسول منهم أن يقول للرب"معك لا أريد شيئًا على الأرض".

وعند باب الجميل، لم يكن مع بطرس شيء يعطيه للمتسول الأعرج. ولكنه قال له: الذي لي إياك أعطيه: باسم يسوع الناصري قم وامش (أع6:3).. وهكذا كان بسم الآب والابن والروح القدس الرب كافيًا، ومعه لا يريد الرسول شيئًا على الأرض.

 

17- حتى الذات لا نريدها أيضًا...

في الخدمة، يكفيك الرب، لست تحتاج إلى ذهب ولا فضة، ولست تحتاج إلى حكمة بشرية، يكفيك الرب الذي يعطيك فمًا وحكمة... وحتى ذاتك أيضًا لست تحتاج. فقد قال الرب "مَن أراد أن يتبعني، فلينكر ذاته" (مر34:8).

بل قال أيضًا "مَن أضاع نفسه من أجلي، يجدها" (مت39:10).

إذا قِفْ أمام الله مُجَرَّدًا من كل شيء، تكفيك نعمته. قُل له في إيمان وثقة"معك لا أريد شيء على الأرض"، "إنني معك في كل حين".

ولكن هل أنت حقًا لا تريد سوى الله، أم لك أشياء أخرى تريدها؟.. إن كان لك ما تريده إلى جوار الله، فهذا يمثل خطورة في حياتك. فما هي..؟


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/god-nothing-else/i-desire-nothing-besides-you.html

تقصير الرابط:
tak.la/sm78g69