St-Takla.org  >   books  >   fr-tadros-malaty  >   john-cassian
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب القديس يوحنا كاسيان: حياته، كتاباته، أفكاره - القمص تادرس يعقوب ملطي

308- مناظرة 18: 16- الصبر والثبات والاحتمال على عواصف التجارب

 

16- على أي الأحوال يوجد سبب مزدوج يقودني أن أسرد هذه الحقيقة:

أولا: أن نتأمل في هذا الثبات والاحتمال كأمر سهل، فيمكننا أن نحيا في هدوء وصبر مستهينين بحيل العدو (الشيطان).

ثانيًا: لكي ما نؤكد أننا لا نقدر أن نهرب من عواصف التجارب وهجمات الشيطان، إذا ما اعتمدنا في مساندة صبرنا، لا على قوة إنساننا الداخلي إنما على مجرد غلق باب قلايتنا أو التوغل في الصحراء ومصاحبة القديسين أو أي ضمان خارجي من أي نوع.

فما لم يتقَّوَ ذهننا بقوة حماية الله الذي يقول في الإنجيل: "ملكوت الله داخلكم" (لو21:17)، باطلاً نظن أننا قادرون على تفادي هجمات عدونا الخبيث "الشيطان" بمعاونة الساكنين معنا، أو نتخلص منها ببعد المكان، "أي الانعزال عن الناس"، أو نهرب منها بحماية الجدران لنا. فإنه إذ كان القديس بفنوتيوس لا يعوزه شيء من هذا، لكن المجرب لم يغلب في أن يجد له منفذًا لمهاجمته.

النفس الممتلئة حماقة لا تنتفع شيئًا من الاختباء وراء الجدران أو الانعزال عن الناس أو استحقاقات القديسين الذين تعيش معهم.

St-Takla.org Image: Some saints (image 111), monks, fathers - AI art, idea by Michael Ghaly for St-Takla.org, 30 January 2024. صورة في موقع الأنبا تكلا: بعض الآباء القديسون (صورة 111)، رهبان - فن بالذكاء الاصطناعي، فكرة مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 30 يناير 2024 م.

St-Takla.org Image: Some saints (image 111), monks, fathers - AI art, idea by Michael Ghaly for St-Takla.org, 30 January 2024.

صورة في موقع الأنبا تكلا: بعض الآباء القديسون (صورة 111)، رهبان - فن بالذكاء الاصطناعي، فكرة مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 30 يناير 2024 م.

لكن إذ ثبَّت القديس، خادم الله، رجاء قلبه لا على أمور خارجية بل على الله الذي هو ديان السرائر، لا تحركه مكائد عدو كهذا.

من الجانب الآخر لم يتمتع الإنسان، الذي دفعه حسده إلى خطية عظيمة كهذه بحياة العزلة، ولم يحمه مسكنه المنعزل، ولا استفاد من التحادث مع القديس الطوباوي الكاهن إيسيذورس وغيره من القديسين، وهكذا إذا ما أثار الشيطان عاصفة يهتز البيت ويندثر للحال.

إذن لسنا نحتاج إلى البحث عن سلامنا في الخارج، ولا نظن أن صبر الآخرين يفيد عدم صبرنا. لأنه كما أن "ملكوت الله داخلكم" كذلك أعداء الإنسان هم "أهل بيتهِ" (مت36:10)، فإنه ليس لي عدو أكثر من قلبي، الذي هو بالحق ألصق "أهل بيتي" إليّ.

فإن كنا حريصين، فإنه لا يمكن أن نتأذى بسهولة من الأعداء الباطنيين، فإذا لم يقاومني أهل بيتي، عندئذ أضمن وجود ملكوت الله في سلام القلب.

إن فحصت الأمر جيدًا، تجد أنه لا يمكن أن يصيبني أي ضرر من أي إنسان مهما كان مؤذيًا، ما لم أحارب نفسي... فإن لحقني الضرر، فالخطأ ليس بسبب هجوم الآخرين إنما لعدم احتمالي. وذلك كالطعام الدسم جدًا، مفيد للإنسان المتمتع بصحة جيدة إلا أنه مضر للمريض، فهو لا يضر الإنسان الذي يتناوله ما لم يكن هو مريض أصلاً. ومهما يكن الأمر، فعليكم أن تعرفوا أن خطية الحسد يصعب الشفاء منها أكثر من بقية الخطايا، فهي الوباء الذي رمز له النبي: بالحيات "لأني هأنذا مرسل عليكم حياتٍ أفاعيَ لا تُرقَى فتلدغكم يقول الرب" (إر17:8).

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

بحق قارن النبي لدغات الحسد بسم الأفاعي المميت... فهي مصدر سموم، لكنها تَهلك وتموت بعد لدغها للشخص. فالحاسد لا يضر المحسود، بل يُهلك نفسه بنفسه قبل أن يؤذي المحسود، يُهلك نفسه قبل أن يصب سم الموت على الغير، لأنه "بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم فيذوقه الذين هم من حزبه" (حك 2: 24-25). كما أن أول من هلك (إبليس) بواسطة الحسد لا يجد علاجًا للتكفير ولا الشفاء، كذلك الذين يسمحون لأنفسهم أن يكونوا حاسدين، تُستبعد عنهم مساعدة أي راقٍ مقدس، لأنهم لم يُعذبوا بخطايا الآخرين، إنما تعذبوا بتفوق ونجاح من يحسدونهم. وهم يخجلون من إظهار الحقيقة، فيبحثون عن عللٍ خارجيةٍ تافهة يبررون بها الخطية، وإذ على الدوام يزيفون الحقيقة، لذلك يبقى رجاؤهم في الشفاء باطلاً، بينما يسري في شرايينهم السم المميت الذي لا يفرزونه "بل ينبعث فيهم بسبب نجاح الآخرين".

الحسد يصعب شفاؤه، لأنه بالبحث عن أسبابه، يصير إلى حال أردأ. يبحث في الأسباب الخارجية لا الحقيقة الداخلية، ويزداد شدة بتقديم الخدمات والهدايا للحاسد، لأنه كما يقول سليمان نفسه "أَنه يقف قدام الحاسد" (أم 4:27). على قدر ما ينجح الآخر (المحسود) في الخضوع والتواضع أو في فضيلة الصبر أو الكرم، تزداد وخزات حسد الآخر، إذ لا يود إلا هلاك المحسود وموته.

أخيرًا لم يكن يوسف قادرًا أن يخفف من حدة حسد إخوته الإحدى عشر، الراغبين في موته مع أنه لم يؤذهم في شيء.

من الواضح أن الحسد من أسوأ الخطايا وأصعبها شفاءً، لأنه يلتهب بنفس الأدوية التي بها تهلك بقية الخطايا، فمثلاً الإنسان الذي يحزن لخسارة قد لحقت به، يشفي بتعويضها، والمتضايق بسبب خطأ أصابه فإن اعتذار متواضع كافٍ لرضائه، لكن ماذا تفعل لإنسان تزداد معصيته كلما ازددت تواضعًا ورحمة، هذا الذي لا يغضب طمعًا في رشوة ينالها... أو ليحصل على خدمات، إنما يغضب بسبب نجاح الآخرين وسعادتهم؟

من ذا الذي يستطيع أن يُرضي الحاسد، الذي يتمنى ضياع ثروة الآخرين، ويعمل على فشلهم، أو يسبب لهم مصائب؟

إننا محتاجون إلى عون إلهي، الذي ليس لديه شيء غير مستطاع، حتى لا تُهلك الحية بعضتها الوحيدة ما هو مزدهر فينا، بل نحيا بحياة الروح القدس الفعَّالة وقوته!

أما فيما يختص بسموم الحية الأخرى، أعني الأخطاء والضعفات الجسدية التي يقع فيها الضعف البشري بسهولة ويشفي منها أيضًا بسهولة، فإنها تترك بعضًا من آثارها على الجسد. وبالرغم من قروح الجسد إلا أن الطبيب الروحي المتمرس يمكنه أن يهب العلاج بكلمات الخلاص الشافية فلا تموت النفس موتًا أبديًا من سم هذا الشر.

عندما تنفث الأفاعي سم الحسد تحطم حياة التقوى والإيمان حتى قبل ظهور أثر الجرح على الجسد، فالحاسد لا يلوم الآخرين بل الله. وهو لا يسعى لتوبيخ إثم الإنسان إنما يستهين بدينونة الله، لأن الحسد هو أصل المرارة، الصاعد إلى السماء، مزدريًا بالله الذي يهب كل صلاح للناس...

الله ليس جابل للحسد، إلا أنه بعدل الحكم الإلهي تُعطى المواهب الصالحة للمتواضعين وتُمنع عن المتكبرين المرفوضين الذين يقول عنهم الرسول أنهم يستحقون أن يُسلَّموا إلى "ذهن مرفوض" (رو28:1)، ويجعل الحسد يسحقهم ويفنيهم كما لو كان من عند الله، كما يقول "هم أغاروني بما ليس إلهًا. أغاظوني بأباطيلهم. فأنا أغيِّرهم بما ليس شعبًا" (تث21:32).

بهذا الحديث زوَّد الأب بيامون شوقنا الذي بدأ ينمو فينا من حياة الشركة إلى مستوى حياة النساك، وبإرشاد تعاليمه بدأنا الخطوة الأولى في الحياة المنعزلة، وتبعنا خطى تعاليمه بعد ذلك في الإسقيط بكل دقة.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-tadros-malaty/john-cassian/conferences-18-steadfastness.html

تقصير الرابط:
tak.la/2hd723k