St-Takla.org  >   articles  >   fr-seraphim-al-baramosy  >   a
 

مكتبة المقالات المسيحية | مقالات قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي - تاريخ المقال: 14 يونيو 2011

47- أزمنة صعبة

 

حينما راسل القديس بولس تلميذه تيموثاوس أنبئه بقدوم أزمنة صعبة difficult times مشحونة بالعنف والغضب؛ لم تكن الصعوبة التي يتحدث عنها القديس بولس ضيقة ينفث فيها العالم لملاحقة الكنيسة ولم تكن اضطهادًا يلاحق الإيمان المسيحي محاولاً زعزعته وتجريف أساساته المتأصلّة في المسيح. كانت الأزمنة الصعبة هي أزمنة تحوّل الإنسانيّة نحو صورة العالم مستلهمين أنموذج الموت المليء بالقساوة والكبر والتجديف والعصيان والشراسة والجشع وانعدام النزاهة.. إلخ. أزمة ذاك الزمان تكمن في أزمة الإنسان التي تجعله يعانق فساده من جديد. إنها أزمة تحجُّر في قالب الموت ورفض صبّ مياه الحياة.

“وَلَكِنِ اعْلَمْ هَذَا انَّهُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ سَتَأْتِي أزْمِنَةٌ صَعْبَةٌ. لأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ. بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضىً، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ. خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ لِلَّهِ. لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا” (2تيمو3: 1-5).

الأزمنة الصعبة حاضرة طالما أنّ الإنسان خاضع لاستهلاكيّة اللّذة ومؤلِّهًا ذاته فوق كلّ سيادة؛” مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ لِلَّه” love pleasure rather than God. أليس العصيان الأوّل كان شهوّة ارتفاع ذاتي بمعزل عن الله؟؟ فالعصيان كان السلوك الظاهر بينما الذاتيّة كانت المرض الدفين.

عالم اليوم يحيا في بؤرة الزمان الصعب، إذ يستبدل كلّ ما هو إلهي بما هو إنساني، يعيد تشكيل دائرة الوجود ليضع ذاته في المركز كفاعل أوحد بل وكخالقٍ للعلم ومن ثمّ للعالم إن جاز التعبير!! حتى في دائرة تديّنه يضع ذاته فوق الحقّ الإلهي كمالك أوحد للحقّ وكأنّه صار مُلمًّا بالحقّ كما الله!!! إنها إحدى أشكال أزمة تأليه الذات..

هنا وينقسم العالم إلى دائرتين: الأولى ترى أنّها تماثل الخالق في قدرتها على الابتكار والاكتشاف، وهي تنتج أخلاقيات استعلائيّة كالكبرياء والتجديف؛ ألم يقل أحدهم حينما شفى إحدى مريضاته من مرضٍ عضال بجراحة ناجحة أنه بمثابة إله يميت ويحيي؟!!! وقال آخر حينما بدأ عصر التلقيح الصناعي المعدّل جينيًّا أنّه يملك خيوط الحياة والبشر!!!

الدائرة الأخرى هي دائرة الاستهلاك التي تقوم على إلحاح إعلامي لربط الرفاهيّة في الحياة بما يُقدّم من إنتاج، فيسير الإنسان وراء كلّ ما هو جديد في عالم التكنولوجيا والموضة والمأكل والمشرب والكماليات.. ليظل أبدًا أسير قانون المصانع والاستهلاك. تلك الدائرة مستهلكة لنتاج الدائرة الأولى وهي تدور في دائرة مفرغة من الاحتياجات المُخلَّقة يوميًّا ومن ثمّ تنتج أخلاقيّات استهلاكيّة كالجشع والقساوة وانعدام النزاهة.. إلخ.

اتحاد الدائرتين ينتج الزمان الصعب، لأنّه ينتج بالضرورة إنسانًا مشوّهًا يحيا متغرّبًا عن ذاته، تائهًا في فضاء الاحتياج الدائم، لا يشعر بالشبع أو الرضَى أو السكينة إذ لم يهدأ ليكتشف قبس الضياء في تلابيب القلب ومعاريجه الدفينة.

لا نتعجّب إذًا إن أعلن العالم عن ذاته من خلال أبنائه الذين يعتنقون عقيدة: “الزمان الحاضر وكفى”!! إيمانهم أنّ “اللّذة هي الإله المتوّج”، يتتبعونها أينما كانت!!!

قالها المسيح من قبل: هل يجتنون من الشوك عنبًا؟؟ فمن ذا الذي يطمح في ثمار تنبت من صخرٍ صلد وأرضٍ جافّة وبذار متعفّنة؟؟ لا نلومن عالمًا لم يتجدّد بعد، ولكن ما يجب أن يستوقفنا هو مسيحي تجدّدت طبيعته في معموديّة قابلاً المسيح المائت / الحي، المصلوب / القائم، الإنسان / الإله، ولا يزال ينتج شوكًا؟!! إذ كيف تثمر كرمة إلهيّة شوكًا جافًّا؟؟؟

سلوك المسيحي مظهرًا لجوهر يحرِّك القيم النبيلة باستمرار في داخله. فمن القلب تتولّد الحياة أو يخبو نورها. ولادة الحياة تشكّل السلوك، وهو ما يسمَّى بالولادة الجديدة وما أطلق عليه الآباء تجديد الطبيعة أو خلع أوراق التين لارتداء المسيح. حينما يحاول المسيحي التشبُّث بوريقات التين ليخفي عواره، فإنّه يرجع أسيرًا لفساده ولسقطته. كلّ منّا له بعض وريقات التين التي يحاول أن يختبئ خلفها من أعين من حوله.. يحاول أن يقصي أعين الجموع عن قبحه.. يحاول أن يتجمّل بوريقات الشجر، ولكن أني لجمال لا يأتي من الداخل، هل من جمال يمكن أن ينبع سوى من نبع الجمال المطلق والمشرق من وراء غيمات الزمن الغارب في أفق نهايته.

سلوكنا في العالم هو إعلان عن جمال إله تبعناه وأحببناه ولاقيناه عند مياه التجديد فمتنا فيه لنحيا به، مشرقين بضياء ينعكس من سكناه بالروح في قلوبنا. إن لم نعلن عن إلهنا في العالم نخفق في كوننا مسيحيين، بل ويتردّد صدى كلمات التوبيخ الرسوليّة؛ إذ يُجدّف على الله بسبب مسلكنا!!

أن نعلن ملكوت النور أو نعلن ملكوت الظلام ذلك هو ما يترتّب على سلوكنا بشكلٍ مباشر. لذا إنّ حديث القديس بولس عن الأزمنة الصعبة كانعكاس لتردّي السلوك هو في جوهره أنين يصدح في قلبه خوفًا من توقُّف الإعلان من خلال المسيحيين.

القضيّة ليست في نتاج السلوك ولكن في نبع السلوك؛ فالعَرَض لا يقلق بقدر المرض المتجذِّر في بدن المسيحي غير الخاضع لنداءات الروح. الإشكاليّة ليست أن تخطئ في موقفٍ أو تنحدر في مسلك مشين -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ولكن أن تحيا في دائرة الخطيئة التي تغذي جسد الموت الصائر إلى العدم. فارق كبير بين خطيئة والخطيئة؛ الأولى انحراف وسقطة وضعف، بينما الأخيرة حالة ولُّباس. إنها كالفارق بين جواد يسقط في مستنقع وحلٍ وبين خنزيرٍ يحيا في مستنقع الوحل.

لكي نتحرّر من زمان العالم الصعب علينا أن نتحرّر من التمركز الذاتي الناتج عن الاغتراب الذاتي، وكذلك علينا أن ننضج لننفلت من دائرة الاستهلاك. المسيح يمكنه آنذاك أن يصير لنا مركزًا يُعبّر عن وجودنا الأصيل فيما وراء الزمان وفاعل بقوّة في إطار الزمان. إنْ تمركز المسيح في حياتنا سلكنا بحسب حقّ الإنجيل وصرنا نورًا للعالم مشعًّا بجمالات الثالوث..


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/times.html

تقصير الرابط:
tak.la/26s7sqp