تبدأ الفكرة عندما يرغب شخص ما معنى بخلاصه بالبحث عن طريقة مُثْلَى يخلص من خلالها، فهو يعتبر أن خلاص نفسه (شخصيًا) هو القضية الأهم والأخطر في حياته، من أجلها يضحى بكل شيء وفي سبيلها يقدم على أي قرار، ويرى أنه لن يتسنى له ذلك إلا من خلال حياة هادئة بعيدا عن العالم، ومن ثم يقرر الشاب أن يحيا حياة إنجيلية مثالية، وإذ يتعذر عليه (هو) إتمام ذلك وهو بين الآخرين في العالم فهو يتجه من ثم نحو أطراف المدن (قبل أن تكون هناك جماعات رهبانية) حيث يصنع له كوخا من الخوص يحيا فيه في هدوء وتأمل يلتمس المنفعة من الإنجيل ثم ممن يتقابل معه من الأشخاص الروحيين المختبرين، هذه من جهة ومن جهة أخرى فإنه يعمل كذلك لينفق على نفسه ثم على المحتاجين حتى يتسنى له بذلك إتمام وصية محبة القريب بجانب محبة الله (أروع تسجيد للمحبة هو الصليب، والصليب له بعدان رأسي وأفقي، هكذا المحبة فالبعد الرأسي فيها يمثل محبتنا لله وأما الأفقي فهو محبتنا لمن حولنا من الناس) ولذلك فقد كان عمل اليد ركنا أساسيا في تدابير الراهب منذ البداية.
كما أن الرهبنة هي شهادة للمسيح بين المسيحيين، لأن الراهب يعطي ذاته مثالًا سليمًا للمسيح من خلال جهاده وتشبهه بسيده، وبالتالي فهو مقياس للناس، تدينون أسباط إسرائيل الاثنيّ عشر (مت 19: 28) أو بمعنى آخر فإن الراهب هو شخص مسيحي، يحاول أن يذهب بمسيحيته إلى حدودها القصوى (لقد كان شعار مؤتمر الرهبنة الأرثوذكسية المنعقد بدير الأنبا بيشوي ببرية شهيت، خلال الفترة من 30 / 4 إلى 4/ 5 / 1979 م هو مكان الحياة الرهبانية في الشهادة للمسيح، وقد اشتركت في هذا المؤتمر كنائس القسطنطينية واليونان وروسيا وأنطاكية وأمريكا ورومانيا وبلغاريا وقبرص وفنلندا وأراجواى وإثيوبيا وأرمينيا وانتيلياس والهند وجورجيا والكنيسة القبطية (راجع مجلة الكرازة / عدد 18 بتاريخ 4/ 5/ 1979 م) أو يحاول بمعنى آخر أن يصل إلى ملئ قياس قامة المسيح.. أن يحقق الكمال الذي رسمه لنا الرب يسوع (أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني المسيح..)
وهكذا وبعدما أصبح الاستشهاد شهوة كل إنسان تقي يعرف يسوع المسيح، توقف الاستشهاد بينما ما تزال الحمية الروحية قائمة بين المسيحيين ومن ثم ظهرت الرهبنة كبديل، وهكذا جاءت الرهبنة وليدة لبذرة الاستشهاد، والذي هو قمة الحب الإلهي للمحبوب يسوع المسيح، وكما يسجل لنا التاريخ أنه ومنذ استشهاد القديس مرقس الإنجيلي في العصر المسيحي الأول، حتى اشتعلت نار الحب في القلوب لتقديم الحياة كلها بالكامل لله، فلما توقف الاستشهاد ظهرت الحياة النسكية (أي الرهبنة) عندما تصل إلى آخر درجة لها، هي استشهاد يومي بدون سفك دم، وهذا ما كان آباء الرهبنة يريدون أن يقدمونه في بداية خوضهم في هذا الطريق.
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه عن القديس انطونيوس، أنه لما حل الاضطهاد بالكنيسة في عهد مكسيميانوس (303-311 م.) ترك القديس أنطونيوس مغارته ودخل إلى مدينة الإسكندرية، آملا أن ينال إكليل الشهادة، ولكن الله لم يشأ له ذلك بل أبقاه لرسالة أخرى، لا تقل كثيرا عن الاستشهاد، ولكنه راح يشجع المقبلين على الاستشهاد حتى أن الحاكم عندما رأى جسارته أمر بألا يظهر راهب في المدينة، ولكن القديس لم يبال بذلك حتى أنه غسل ثيابه ووقف في اليوم التالي في مكان مرتفع أمام الرؤساء، ورآه الوالي في ثيابه الحسنة شجاعا.. وكان يصلي لكي يكون هو شهيدا ولذلك فقد كان يبدو عليه الحزن بسبب عدم نواله هذا الإكليل، ولكن الله أبقاه لمنفعة الكثيرين في الطريق النسكية، ولما انقضى زمن الاضطهاد عاد أدراجه إلى المغارة يجاهد بأشد صرامة.. (سيرة القديس أنطونيوس بقلم القديس أثناسيوس الرسولي / جمعية الأصدقاء المركزية ص 65، 66.)
ونقرأ في الكتابات الرهبانية الأولى كيف أن الراهب كان يحيا على أطراف القرى وبجوار الأنهار والترع، يعمل في صناعة القفف والسلال ثم يدفعها (يسلمها) إلى الجمالين (البدو الرحل) حتى يبيعونها له ويشترون له ما يحتاج إليه من خبز وبقول وخضروات، ثم يتصدقون له بالباقي على المساكين، وبين آن آخر كان يتردد (أي الراهب) على الكنائس القريبة للتقرب من الأسرار الإلهية، حيث كان مألوفًا لدى عامة الشعب أن يروا راهبًا أو بعض الرهبان عند التناول، وبذلك كان الراهب يمارس حياة الشركة والجسد الواحد مع الكنيسة (ويرد في كتاب الرهبنة الديرية في مصر للدكتور رءوف حبيب: أن رهبان القديس آمون كسبوا معيشتهم من استخراج النطرون وبيعه للقوافل، كما عمل الرهبان في الإسقيط في الأفران واشتغل البعض منهم في الغزل ونسيج الكتان اللازم لصناعة ملابسهم ومنهم من عمل اسكافيا، وأصبح لزامًا على الرهبان أن يحملوا عمل أياديهم أسبوعيًا إلى رؤسائهم، كما كانوا يخرجون جماعات في مواسم الحصاد في اقليمي برفا وغرب الدلتا، وكانت أجرتهم قمحا يوضع في مخازن الدير، كما كانت الأديرة تتصدق بالطعام والأقمشة التي تنسجها على فقراء البلاد القريبة منهم، كما أرسلوا سنويا سفنا إلى الإسكندرية مشحونة بالقمح تتوزع على المسيحيين السجناء والغرباء كذلك، ويقرر روفينوس أنه في النصف الثاني من القرن الرابع انتعشت الأديرة حتى أصبحت الجماعات الرهبانية تعطي الكنيسة بسخاء، وبالجملة فقد كان هناك اكتفاء ذاتي بحيث لا تزيد مصروفات الجماعة على إيراداتها، مع الحرص بدقة في الوقت ذاته على تخصيص جزء من هذه الإيرادات للتصدق على الفقراء ص 89-93).
كان ذلك قبل أن تتحول هذه الحالات الفردية إلى جماعات رهبانية تحت إمرة وإرشاد أب كبير مختبر مثلما حدث مع القديس أنطونيوس إذ دخل البرية الجوانية عقب انتهار إحدى الفتيات له بسبب سكناه بالقرب من العالم، هناك تجمع حول القديس شبان كثيرون فبنى لهم كنيسة حيث صار ذلك نواة لأول جماعة رهبانية مسيحية عرفها التاريخ وذلك في سنة 305 م.
ولعل أول راهب عرفه التاريخ هو إيليا النبي الذي عاش في جبل الكرمل قبل الميلاد بسبعة قرون ومن بعده يوحنا المعمدان، ويرى الرهبان الكرمليون (جماعة رهبانية عاشت في جبل الكرمل) أن رهبنتهم هي الأقدم من نوعها في الكنيسة، لأنها تنتمي إلى إيليا النبي (رهبنة الكرمل / مطبوعات رسالة القديسة تريزا ليسوع الطفل – شبرا / ص 11.)
وعاش الآباء مجاهدين من أجل الوصية ويقول البابا أثناسيوس الرسولي في كتاب عن القديس أنطونيوس أن الرهبنة هي جهاد ضد قُوَى الشر في سبيل تحقيق الوصية، إذا فقد كانت فكرة الرهبنة هي تقديم حياة مثالية حسبما رسم الرب يسوع المسيح، ويرى بعض الآباء أن الرهبنة تحولت في بعض الأوقات – وفق مفاهيم خاصة متطرفة – إلى ما يمكن أن يطلق عليه تطرفات نسكية، بمعنى أن يتخذ شخص ما من الصمت هدفا وحيدا فيمعن فيه ويوقف كل إمكانياته الذهنية والروحية على هذا الهدف، ويجري آخر بالنسك الشديد تجاه الطعام في اتجاه آخر ويتبارى فيه مع آخرين، وثالث في البعد عن العالم وهكذا رابع في إتعاب جسده – الخ، الرهبنة، وحقيقي أن الرهبنة هي حياة مُغايرة ودعوة لها خصوصيتها، ونمط غير تقليدي، إلا أنها أيضا حياة إنجيلية بالدرجة الأولى يحيا فيها الراهب بموجب الوصية مستخدما في ذلك الوسائط التي تركها له الشيوخ الذين سبقوا فاختبروا تلك الحياة وعرفوا دروبها وذاقوا طعم ثمارها وتجاربها وأمجادها حتى ليقال أنها مهنة (صنعة) مثل كل المهن التي لها أسرارها وخبرتها وشيوخها (شيوخ المهنة).
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/cm2w9y2