St-Takla.org  >   books  >   maurice-tawadrous  >   holy-spirit-to-serapion
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون للقديس أثناسيوس الرسولي - موريس تاوضروس، نصحي عبد الشهيد

4- تعليم القديس أثناسيوس عن الروح القدس

 

ثالثًا: تعليم القديس أثناسيوس عن الروح القدس:

بالنسبة للقديس أثناسيوس، فإن التعليم عن الروح القدس مرتبط بعلاقة وثيقة جدًا بالتعليم عن الابن. ويصِر القديس أثناسيوس على هذه العلاقة الوثيقة بين الابن والروح ويؤكد أن “التروبيكية” تتناقض مع تعليم الكنيسة الثابت. وهذا التقييم الذي وصل إليه القديس أثناسيوس من جهة هذه البدعة، ليس مجرد خطة تكتيكية لِدحض مقاوميه، بل هو مبدأ سليم حسب أساسيات العقيدة. فإن قضية الروح القدس نشأت من داخل الحديث عن قضية الابن، فقد كانت قضية الروح مِحنة من داخل مِحنة أخرى. فالعقيدة المسيحية عن الله في شموليتها، كانت تعتمد على هذه القضية. فلو كان القديس أثناسيوس قد استسلم للتروبيكيين أو أذعن لهم في احتساب الروح مع المخلوقات، لاقتضى منه هذا أن يتخلى عن كل ما جَاهَد لأجله. ويمكن أن نفهم إلى أي مدى كان القديس أثناسيوس متحققًا بوضوح من هذه العلاقة، من إشاراته إلى الروح في مقالاته الثلاث ضد الأريوسيين (Contra Arianos I-II-III): وهي كالآتي:

1- الروح القدس مرسل وَمُعْطَى بواسطة الابن كخاصته (ضد الأريوسيين 1: 47، 48).

2- المساواة بين الروح والابن (ضد الأريوسيين 1: 50).

3- الروح هو بنوع خاص عطية الله، وإرساله من الابن يثبت ألوهية الابن (ضد الأريوسيين 2: 18).

4- الروح في الثالوث هو كنشاط النور الذي في الشعاع الآتي من الشمس (ضد الأريوسيين 3: 15). وقد أوضح القديس أثناسيوس هذه العلاقة بين الروح والابن (في الرسالة الأولى إلى سرابيون: 19) إذ يقول: (حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه... فيمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير).

5- الله حال فينا، بِسُكْنَى الروح القدس (ضد الأريوسيين 3: 24).

هذه الاعتبارات تكفي للرد على القول بأن الإيمان بألوهية الروح القدس، هو أمر التقطه أثناء سفرته في روما والغرب. فتعليمه عن الروح ليس مجرد فضلة زائدة ملصقة بعقيدته في الابن. فالتعليم عن الابن والتعليم عن الروح ينبع كل منهما من الآخر بطريقة طبيعية وحتمية. فالتعليمان متكاملان تمامًا. ولكن لإصرار أثناسيوس على أننا نستقي معرفتنا للروح من معرفتنا للابن، فإنه يكشف ليس فقط تقديرًا دقيقًا للاتجاه المعاصر له من جهة الفكر اللاهوتي، بل أيضًا فهْمًا عميقًا وقويًا لموضوعه.

 

St-Takla.org Image: The twentieth Pope of Alexandria: Saint Athanasius of Egypt. صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة حديثة للبابا أثناسيوس الرسولي بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية العشرون.

St-Takla.org Image: The twentieth Pope of Alexandria: Saint Athanasius of Egypt.

صورة في موقع الأنبا تكلا: أيقونة حديثة للبابا أثناسيوس الرسولي بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية العشرون.

ونحن نجد هنا عند أثناسيوس مرة أخرى مفهوم العهد الجديد عن الروح القدس: أنه روح الابن، ليس فقط لأن الابن يعطيه ويرسله، بل لأن الروح هو الذي يحقق حياة المسيح فينا. فخدمة الروح القدس هي خدمة الابن، وكل ما يعمله الابن إنما يَتَحَقَّق في الروح القدس (رسالة 1: 19، 20). ويمكننا أن نقول بحق عن أثناسيوس ما قاله ليبرتون J. Lebreton أحد الكتاب المعاصرين عن بولس: “المسيح يقف وراء فهمه للروح”. يقول القديس أثناسيوس: لأنه لا يوجد شيء لم يُخْلَق ولم يُعْمَل بالكلمة في الروح” (رسالة 1: 31). فهذه الصيغة: “بالكلمة في الروح” المبنية على (1كو 8: 6، و1كو 12: 3) وغيرهما تتكرر مرة بعد أخرى في هذه الرسائل: (رسالة 1: 9، 12، 24، 25، 30، ورسالة 3: 5). فعمل اللاهوت كما يفهمه القديس أثناسيوس يبتدئ من الآب ويتحقق بواسطة الابن في الروح القدس. إذ يقول القديس أثناسيوس:

1- الروح هو الانيرجيا - energeia أي energy والانيرجيا تعني الفِعل أو القوة أو الطاقة (انظر رسالة 1: 20) إذ يقول: “القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس الكلمة الحي ويضيء، تنبثق من الآب، لأنها من الابن الذي يعترف أنه من الآب، فالآب يرسل الابن والابن يرسل الروح”. وانظر (رسالة 1: 30) حيث يقول في تعليقه على (1كو 12: 4-6) حينما يتكلم الرسول بولس عن “المواهب”، و”الخدم”، وأنواع “أعمال”، (انيرجيا - energy)، فيقول الآتي: “المواهب التي يقسمها الروح لكل واحد تُمْنَح من الآب بالكلمة. لأن كل ما هو من الآب هو من الابن أيضًا. وإذن فتلك الأشياء التي تُعْطَى من الابن في الروح هي مواهب الآب. وحينما يكون الروح فينا، فالكلمة الذي يعطي الروح يكون أيضًا فينا”.

← انظر مقالات وكتب أخرى للمترجم هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

2- يقول القديس أثناسيوس أن “الأشياء المخلوقة بالكلمة تنال قوة الوجود من الكلمة بالروح” (رسالة 3: 5). وهذه العبارة تعني أن القديس أثناسيوس ينظر إلى الروح على أنه هو الذي يعطي تحقيقًا واقعيًا لقوة الله وعمله. ويبلغ بالعمل إلى غايته المحددة.. فالروح هو روح القوة والمعطي الحيوية وَمُكَمِّل أعمال الله.

ويقول أثناسيوس عن الروح أنه “النور” الذي به نستنير إذ يقول: (حيث أن الآب نور والابن هو شعاعه.. ويمكننا أن نرى في الابن “الروح” الذي بواسطته نستنير.. ولكن حينما نستنير بالروح فالمسيح هو الذي ينير في الروح لأنه يقول: “كان النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتيًا إلى العالم” (يو 1: 9). فـ“الشعاع يدل على ما تشعه الشمس، و”النور” يدل على ما تستقبله العين، وهو الذي يحقق ويكمل كل عملية الإنارة في المتقبل الذي يستنير. هذا الخط الفكري يرتبط في يُسْر شديد بعمل الروح في تقديس المخلوقات. ومن هذه الناحية فإن أثناسيوس يفكر في الخلق والتقديس كعمل واحد، ولذلك ففي عرضه لخدمة الروح في الرسالة (الأولى: 22-24) يتناول فاعليته في الخلق، لا بصورة مستقلة بل كما لو كانت ضمن إطار فاعلية الروح التقديسية. وكان هذا ميسورًا جدًا بالنسبة لأثناسيوس بسبب تعليمه عن الخلق ذاته، كما جاء في الرسالة إلى الوثنيين حيث قال: (لهذا صنع (الله) كل الأشياء بكلمته الأزلي، وأعطى الخليقة جوهرها الخاص.. ونظرًا لصلاحه يرشد كل الخليقة ويركزها بكلمته الذي هو نفسه الله أيضًا، لكي يكون للخليقة نور تدبير ورعاية وتنظيم “الكلمة” (اللوغوس)، ولكي تتمكن من أن تستقر آمنة دوامًا، لأنها تشترك مع الكلمة الذي يستمد الوجود الحقيقي من الآب، وتستمد منه المعونة للوجود لئلا يصيبها ما كان ممكنًا أن يحل بها لولا بقاؤها بواسطة اللوغوس، أي لئلا يصيبها الانحلال، لأنه هو “صورة الله غير المنظورة، بِكْر كل خليقة، فإنه به وفيه كل الأشياء كائنة، ما يُرى وما لا يُرى، وهو رأس الكنيسة” (كو 1: 15-18) كما يُعَلِّم خدام الحق في كتاباتهم المقدسة (فصل 41: 3). وجاء في كتابه “تجسد الكلمة” ما يلي:

“لأن الله.. خلق كل الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وفضلًا عن ذلك، فإنه إذ تحنن بصفة خاصة على الجنس البشري دون سائر المخلوقات على الأرض، وإذ رأى ضعفه -بطبيعة تكوينه- عن أن يبقى في حال واحدة، منحه نعمة أخرى، فإنه لم يكتف بمجرد خلقته للإنسان كما فعل بباقي المخلوقات غير العاقلة على الأرض بل خلقه على صورته ومثاله، وأعطاه نصيبًا حتى في “قوة كلمته”، لكي يستطيع وله نوع من “ظل الكلمة” وقد خُلِقَ عاقلًا أن يبقى في السعادة أبدًا، ويحيا الحياة الحقيقية، حياة القديسين في الفردوس(3).

والله إذ خَلَقَ فإنه قد منح خلائقه شركة في طبيعته، واستمرار مخلوقاته في الوجود يصير مضمونًا بواسطة حضوره فيها. وإن كان القديس أثناسيوس في “الرسالة إلى الوثنيين” وفي “تجسد الكلمة” لا ينسب هذا الحضور إلى الروح بل إلى الابن، إلا أنه حينما يكتب هذه الرسائل عن الروح القدس، فإنه يعيد تفسير كلا من الخلق والتأليه، لكي يعطي لعمل الروح القدس حق قدره. ففي (الرسالة الأولى فصل 29) يصر القديس أثناسيوس في تفسيره لأفسس (أف 4: 6) على أن “التروبيكيين” بإنكارهم ألوهية الروح القدس ينكرون فاعلية الله في المعمودية، لأن الروح كما يقول القديس أثناسيوس “هو الذي يوحدنا بالله” (1: 29).

وفي عرضه لعمل الروح في التقديس، فإنه يعود بنا مرة أخرى إلى العهد الجديد، فهو يتحدث عن عمل الروح القدس في الأنبياء، ويركز هذا العمل في وحي الكتب المقدسة. فهو لا يتكلم كثيرًا عن عمل الروح بل ينشغل بالأكثر، بتأكيد حقيقته أنه خاص بالله. وتقدير أثناسيوس للروح هو متأثر أساسًا بفهمه للتقديس كعمل إلهي فائق للطبيعة، أكثر مما هو عمل أخلاقي ورغم أن لفظة Theopoisis “تأليه” ومشتقاتها ليست بارزة في هذه الرسائل بمثل بروزها في مقالاته ضد الأريوسيين إلا أن فكرة التأليه هذه تسود تفكيره. ويقصد القديس أثناسيوس بالتأليه(*) الارتفاع بالطبيعة البشرية إلى حالة عدم الفساد الخاصة بالله، حتى أنها توهِب القدرة على الاشتراك في غبطة الله بقدر ما تسمح مخلوقيتها.

هذا المفهوم لم يكن أثناسيوس هو أول مَنْ تكلم عنه. فقد تكلم كليمنضس الإسكندري عن تحول الطبيعة البشرية إلى مستوى إلهي، ولكنه يفسر هذا التحول على أنه نوع من الاستنارة، بينما أن القديس أثناسيوس يربط هذا التحول مباشرة بحالة البشرية الساقطة وفقداننا للخلود الذي نتج عن السقوط. فعنده أن غرض التجسد ليس فقط نوال الاستنارة بل أيضًا أن يعيد خلق بشريتنا بإعادة توحيدها مع الله. وبذلك يوقِف عملية الموت. وبهذا الإصرار على “عدم الفساد” (Aphatharsia) باعتبارها الخاصية المتميزة في الحياة الإلهية، كما هي مُعطاة للبشر، فإنه “بهذا الإصرار” يتخذ موقف تعليم القديس إيريناوس. وقبل إيريناوس يمكن أن نتتبع هذا التعليم فنجده عند أغناطيوس، ومن ثم نجد بدايته في الإنجيل للقديس يوحنا. وهذا ما تصلي به الكنيسة القبطية في صلاة الصلح للقداس الباسيلي قائلة: الله جَبَلَ الإنسان على “غير فساد” وأنه هدم الموت بظهور ابنه الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح في الجسد لكي يعيدنا إلى “عدم الفساد”.

إن معالجة القديس أثناسيوس لهذا الموضوع: التأليه أو التقديس في هذه الرسائل كما في مقالته الأولى ضد الأريوسيين، هي في غاية الأهمية، لا بسبب أنه يوسع مفهوم التقديس الموجود في كتاب تجسد الكلمة، بل بسبب أنه يربط هذا التقديس بالروح القدس. ففي “مقالته الأولى ضد الأريوسيين” يقول في حديثه عن ألوهية الابن: “أما المخلص فحيث أنه هو الله فإن يزاول دائمًا حكم مملكة الآب. ولما كان هو نفسه مانح الروح القدس، إلا أنه يُقال الآن أنه يُمْسَح، لكنه كإنسان يُقال عنه أنه يُمْسَح بالروح، وذلك حتى يبني فينا نحن البشر سُكْنَى الروح وألفته تمامًا مثلما وهبنا الرفعة والقيامة... إذن فإن كان يقدس ذاته من أجلنا وهو يفعل هذا لأنه قد صار إنسانًا، فمن الواضح جدًا أن نزول الروح عليه في الأردن إنما كان نزولًا علينا نحن، بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يَصِر من أجل ترقية اللوغوس بل من تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يُقال عنا “الستم تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3: 16).. وحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته.. إذن فلا يكون اللوغوس باعتباره اللوغوس والحكمة هو الذي يُمْسَح من الروح الذي يعطيه هو ذاته، بل الجسد الذي قد اتخذه هو، الذي يُمسح فيه ومنه، وذلك لكي يصير التقديس الصائِر إلى الرب كإنسان، يصير (هذا التقديس) إلى جميع البشر به. لأنه يقول أن “الروح لا يتكلم من نفسه” (يو 16: 13)، بل اللوغوس هو الذي يعطي هذا الروح للمستحقين (ضد الأريوسيين المقالة الأولى)(4).

وفي الرسالة الأولى إلى سرابيون، يقول القديس أثناسيوس: “وأيضًا الروح هو روح القداسة والتجديد وهو يُدْعَى هكذا.. والروح يُدْعَى مسحة وهو الختم.. والمخلوقات تُخْتَم وَتُمْسَح بواسطته وتتعلم منه كل شيء. ولكن إن كان الروح هو المسحة والختم الذي به يَمْسَح الكلمة كل الأشياء وَيَختمها، فإذن أي شبه أو انتماء للمسحة أو الختم مع الأشياء التي تُمْسَح وَتُخْتَم؟ وأولئك الذي يُمْسَحون يقولون حينما ينالون المسحة نحن رائحة المسيح الزكية (2كو 2: 15). والختم له صورة المسيح الذي يختم، والذين يختمون يشتركون في الختم ويتشكلون حسبه، كما يقول الرسول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غلا 4: 19). وهكذا إذ نُختم فمن الطبيعي أن نصير “شركاء الطبيعة الإلهية كما يقول بطرس الرسول” (2بط 1: 4). وهكذا فكل الخليقة تشترك في الكلمة بالروح، وبالإضافة إلى ذلك فإنه يُقال عنا أننا شركاء الله لأنه يقول: “أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1كو 3: 16).

أما الآن فلكوننا نُدعى شركاء المسيح وشركاء الله، فهذا يوضح أن المسح والختم الذي فينا ليس من طبيعة المخلوقات، بل من طبيعة الابن الذي يوحدنا بالآب بواسطة الروح الذي فيه. وإن كنا بالاشتراك في الروح نصير شركاء الطبيعة الإلهية، فإنه يكون من الجنون أن نقول أن الروح في طبيعة المخلوقات وليس من طبيعة الله. وعلى هذا الأساس فإن الذين هم فيه، يَتَأَلَّهُون. وإن كان هو يُؤَلِّه البشر، فلا ينبغي أن يشك في طبيعته هي طبيعة إلهية” (رسالة 1: 23، 24).

في هذه الرسائل ينسب القديس أثناسيوس فِعْل التأليه للروح القدس. وهنا نجد أن فِكر القديس أثناسيوس قريب جدًا من فكر القديس إيريناوس الذي أكد بشكل خاص في تعليمه عن التقديس على عمل الروح، أكثر من أي كاتب آخر من كُتَّاب القرنين الثاني والثالث. والتشابه بينهما ليس محصورًا فقط في الفكرة العامة، فالرموز والمصطلحات التي يعبران بها، والنصوص التي يبنيان عليها، هي غالبًا مشتركة بينهما (انظر “ضد الهرطقات” لايرنياوس 3: 17، 18، 5: 1، 6: 1، 7: 1). ويمكن أن يكون أثناسيوس متأثرًا مباشرة بإيريناوس في هذه النقاط. ولكن حتى إن كان قد استعار مادته منه، إلا أنه يوجهها حسب استعماله الخاص، ويجعلها تخدم مفهومه في أن الروح يخص الابن. فمثلًا كل من أوريجينوس وإريناوس يستخدم رمز “المسحة”. فبالنسبة لأوريجينوس تُعَبِّر “المسحة” عن انتشار كلمة الله وحكمته في نفس المسيح الإنسانية [من (مزمور 44: 8)][س]، حتى أن رائحة المسيح تمتد إلى أولئك الذين يشتركون فيه أما إيريناوس فيأخذ الكلام عن المسحة من (إشعياء 61: 1)، ويربطها بنزول الروح على المسيح فيقول: “إنه الآب هو الذي يمسح، ولكن الابن هو الذي يمسح بواسطة الروح الذي هو المسحة” (Haer. III، XVIII، 3) وكما يأخذ المسيح الروح هكذا هو ينقله إلى أولئك الذين يشتركون في شخصه. وأثناسيوس كما هو واضح من مقالته الأولى ضد الأريوسيين (1: 46، 47) يبدأ أيضًا من (إشعياء 61: 1)، ومن معمودية المسيح. ولكن منذ البداية، الروح عنده هو روح الابن إذ يقول: “كوني أنا كلمة الآب فأنا نفسي أنا الصائر إنسانًا - أعطي ذاتي الروح”. فكون المسحة هي من الآب يستبعدها أثناسيوس مؤقتًا، وهكذا نجد في الرسالة الأولى إلى سرابيون (1: 23) تأكيدًا على أن المسيح هو الذي يمسح، وأيضًا تأكيدًا على أن الخاصية المميزة التي تُمْنَح بواسطة الروح هي خاصة بالمسيح.

ولكوننا نُمْسَح بالروح “فإننا رائحة المسيح”. وهكذا بالمثل يعتبر إيريناوس الروح كناقل لصورة الآب والابن إلى الإنسان (Haer. III، XVII، 3)، أو بتعبير آخر: “شبه الله“. وحينما يتكلم أثناسيوس عن الروح كختم وصورة، فهو يحصر الاستعارة في علاقة الروح بالابن. وبالمثل فالروح عند إيريناوس هو على وجه العموم “روح الله“، وأحيانًا قليلة يستعمل عبارة “روح الآب” (Heari III، XVII، 1)، ولكن إيريناوس لا يستعمل مطلقًا عبارة “روح الابن”.

أما عند أثناسيوس فإن عبارة “روح الابن” هي التسمية المُعْتَادة عنده للروح.

وفي كل هذا، لا يوجد بالطبع أي قصد عند أثناسيوس بأن يبعد الروح عن الآب. وربما بسبب أنه شعر أن ما يقوله في (الرسالة الأولى (1: 22 وما بعده)) يمكن أن يُسَاء فهمه بهذا الشكل (أي كما لو أنه يبعد الروح عن الآب)، لذلك فهو يُصِر بوضوح في الرسالة الثالثة (3: 1) أن “الروح القدس الذي قيل أنه للابن فهو للآب”. فالابن كما لو كان يَصِل بين الآب والروح. فلأن الروح خاص بالابن، لذلك نفهم انبثاقه من الآب إذ يقول في الرسالة الأولى (1: 20) “هكذا فإن القوة الحيوية والعطية التي بها يقدس ويضيء (الابن) ينبغي أن تكون واحدة كاملة وتامة، وهي التي يُقال عنها عنها تنبثق من الآب لأنها من الكلمة، الذي يعترف أنه من الآب، وهي (أي الروح القدس) التي تشرق وترسل وتعطي”.

ومن الملاحظ أنه عندما يستعمل القديس أثناسيوس الحرفين Para، eK ليشير بهما إلى العلاقة بين الروح والابن فهو هنا يتحدث عن إرسالية الروح القدس من الابن في الزمن وليس عن الانبثاق الأزلية لأقنوم الروح القدس.

وعندما يتحدث أثناسيوس عن عمل الله في الخليقة وفي الكنيسة أي في التدبير، فإنه يشرح هذا العمل باعتباره عملًا مشتركًا بين الأقانيم الثلاثة، فالآب يعمل كل شيء بالكلمة في الروح، ويؤكد أن الروح ليس خارج الكلمة بل إذ هو في الكلمة فهو في الله (رسالة 3: 5). وبالنسبة للقديس أثناسيوس فإنه يهتم بالتأكيد فقط على أن الروح هو في الله، أما كيف ينبثق الروح القدس من الآب فهذا أمر يعجز المؤمن عن أن يتدخل فيه بعقله، فهو يَعْتَبِر أن التفكير العقلي في هذا الأمر هو تَجَاسُر وجنون خطر (انظر رسالة 1: 18، 19).

 

(*) توضيح من الموقع: التألُّه هو مصطلح لاهوتي يعني الاتحاد بالله، التقديس بالله، روح الله يسكن فين، التبني (نصبح أبناء الله).. كل هذه مفاهيم سليمة. ولا يعني المصطلح بالطبع أن يصبح الإنسان إلهًا مثل الله - حاشا. لذا لا تميل كنيستنا لاستخدام هذا المصطلح كثيرًا لئلا يُساء فهمه.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(3) “تجسد الكلمة” فصل 3 ترجمة القس مرقس داود.

(4) انظر المقالة الأولى ضد الأريوسيين فصل 46 و47 ترجمة الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد والدكتور نصحي عبد الشهيد صفحات 89-91 نشر مركز دراسات الآباء القاهرة 1984.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/maurice-tawadrous/holy-spirit-to-serapion/teachings.html

تقصير الرابط:
tak.la/8a8885g