St-Takla.org  >   books  >   anba-yoannes  >   apostolic-church
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب الكنيسة المسيحية في عصر الرسل - الأنبا يوأنس أسقف الغربية

172- عقيدة النعمة والخلاص

 

3- عقيدة النعمة والخلاص:

نعمة الله هي السبب في كل ما يتمتع به البشر من بركات العهد الجديد... فَلَولاها ما كان فداء ولا كان خلاص ولا شيء ممَّا نتج عن ذلك... لقد طُرِدَ الإنسان الأول من الفردوس بسبب عصيانه، وأُغلق على أثر ذلك، وأقام الله "الْكَرُوبِيمَ وَلَهِيبَ سَيْفٍ مُتَقَلِّبٍ لِحِرَاسَةِ طَرِيقِ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ" (تك 24:3)... لكن كيف أُعيد الإنسان إلى رتبته الأولى، فهذا هو دور نعمة الله...

ولفظ " نعمة xápic " في أصله اللغوي اليوناني قبل المسيحية، كان يُستخدم للتعبير عن فضل أو إحسان قدَّمه إنسان لآخر عن جُود قلبي طاهر، دون أمل في أن يرد هذا الآخر الجميل لِصَاحبه... واُستخدمت في العهد الجديد عن جُود الله المجاني الذي صنعه مع البشر عند الجلجثة، حينما أخلى ذاته، وتنازل عن مجده، وحمل خطاياهم والعقوبة التي يستحقونها... ونلاحظ أنَّ استخدام الكلمة في اليونانية القديمة، كان للتعبير عن الجميل أو المعروف الذي يُقدَّم إلى صديق، وليس إلى عدو. أمَّا في حالة الله، فقد قدَّم إحسانه إلى أعدائه... إلى البشر الخطاة الذين امتلأ قلبهم كراهيةً نحو الله(19)... ومهما يكن من أمر فإنَّ كلمة "نعمة xápic" في العهد الجديد هي كلمة جديدة، بمفهوم جديد، وأصبحت اصطلاحًا خاصًا(20). وتتردد كلمتا النعمة والخلاص كثيرًا في أسفار العهد الجديد، خاصةً في رسائل القديس بولس... لكن من الخطأ تصوّر أنَّ القديس بولس هو صاحب هذه العقيدة، وأصل هذا المفهوم. بل إنَّ السيد المسيح هو مصدره، وإن كان بولس أبرزه إبرازًا متميزًا واضحًا... فالسيد المسيح يُعبِّر عن نعمة الله المحبة الرحيمة التي تريد خلاص جميع البشر، ويُصوِّرها بكلمات وأمثال، دون أن يضبطها في تعبيرات وألفاظ محددة... فَوَصيته أن نحب -ليس أحباؤنا فقط - بل أعداءنا أيضًا، تَشبُّهًا بالآب السماوي الذي يشرق بشمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين (مت 5: 43-48). ووصيته لتلاميذه "مَجَّانًا أَخَذْتُمْ مَجَّانًا أَعْطُوا" (مت 8:10). وفي سعيه نحو الخطاة وجلوسه معهم، وفي أمثلته التي ساقها عن محبة الله لخلاص الأشرار، وحنوُّه في معاملتهم كما في حالة المرأة الزانية التي أُمسكت في ذات الفعل (يو 8: 3-11)... في كل ذلك إعلان بالأمثال والتصرفات والإشارات لنعمة الله الفائقة، الحانية الشاملة، المجانية...

← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

 

St-Takla.org Image: Grace - Designed by Michael Ghaly for St-Takla.org. صورة في موقع الأنبا تكلا: كلمة النعمة - تصميم مايكل غالي لـ: موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

St-Takla.org Image: Grace - Designed by Michael Ghaly for St-Takla.org.

صورة في موقع الأنبا تكلا: كلمة النعمة - تصميم مايكل غالي لـ: موقع الأنبا تكلا هيمانوت.

والنعمة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بموضوع الخلاص. فإن كانت نعمة الله ظهرت في خلاص البشر. فيكون الخلاص من جانب البشر، هو نوال هذه النعمة... وفيما يختص بموضوع نعمة الله وخلاصه، في المفهوم الرسولي ، نلاحظ الآتي:

 

(أ) إنَّ هذه النعمة، وهذا الخلاص -من جانب الله- هُما هبة مجانية، بلا مقابل، ولا تتوقف على استحقاقات البشر وأعمالهم...

فالبشر جميعًا شملتهم الخطية، وملكت عليهم، يستوي في ذلك الوثني واليهودي... "لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رو 23،22:3)... والناموس - وهو مجموع الوصايا التي أعطاها الله لشعبه اليهودي، لم يكن له القدرة على تخليصهم "لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ". وكل ما استطاع الناموس أن يفعله، هو أنَّه كشف لهم سوء أحوالهم واحتياجهم لله "لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ" (رو 20:3)... "وَأَمَّا النَّامُوسُ فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ الْخَطِيَّةُ" (رو 20:5)... وهكذا فقد كان الناموس بمثابة مرآة تُستعمل لإقناع ذي الوجه القذر بقذارته، دون أن يكون لها القدرة على تنظيفه..!!

والنتيجة التي وصل إليها القديس بولس بعد أن استعرض حالة العالم الأدبية الروحية والشرور الكثيرة التي غرق فيها... النتيجة... "يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ" (رو 19:3)... وكنتيجة لهذه النتيجة تظهر نعمة الله المُخلِّصة المجانية "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ" (رو 25،24:3)... بهذا نستطيع أن نفهم كلمات الرب يسوع: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أن يُقْبِلَ إلى أن لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ" (يو 44:6)... لا استحقاقات للبشر في هذه النعمة، وإلاَّ لو كان للبشر استحقاقات ما كانت تُعتبر نعمة "فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ [المقصود بالأعمال هنا، أعمال البشر السابقة للفداء.] وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ [المقصود بالأعمال هنا، أعمال البشر السابقة للفداء.] فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً" (رو 6:11)... "اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا. وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أنتُمْ مُخَلَّصُونَ... لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ علينا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ(21) كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أف 2: 4-9)(22)...

ونلفت النظر - فيما يختص بكلام الرسول السابق عن التبرير بالنعمة المجانية، وليس بالأعمال، أنَّ المقصود هو حياة البشر عامة وأعمالهم السابقة للفداء الذي تم على الصليب، ولا يُقصد بها بحال أعمال الإنسان المسيحي المؤمن في ظل الفداء والصليب، فنعمة الله التي ظهرت في عمل المسيح الكفاري كانت - بحسب تعبير القديس بولس: [صفحًا عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ] (رو 25:3)... على نحو ما يُصدر رئيس دولة عفوًا عامًا عن المسجونين السياسيين مثلًا... فليس معنى هذا أن يعود هؤلاء المسجونون المُحرَّرون أو غيرهم إلى نفس جرائمهم أو جرائم مشابهة، احتماء في العفو السابق، أو استغلالًا له... وسنعود إلى مناقشة هذا الموضوع فيما بعد.

 

(ب) إنَّ هذه النعمة المجانية المُخلِّصة عامة لجميع البشر منذ آدم وإلى نهاية العالم... فإن كانت خطية آدم الأول شملت كافة البشر، فنعمة المسيح الفائقة أقوى بما لا يقاس... "كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هَكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ" (1كو 22:15)... "لَيْسَ كَالْخَطِيَّةِ هَكَذَا أيضًا الْهِبَةُ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ وَاحِدٍ مَاتَ الْكَثِيرُونَ فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا نِعْمَةُ اللهِ وَالْعَطِيَّةُ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي بِالإِنْسَانِ الْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ قَدِ ازْدَادَتْ لِلْكَثِيرِينَ" (رو 15:5)... "مُخَلِّصِنَا اللهِ، الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ... الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ" (1تى 2: 3-6)... ويقول يوحنا الرسول "وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أيضًا" (1يو 2:2).

 

(جـ) وأنَّ هذه النعمة العامة المجانية من أجل خلاصنا، نستحقها بالإيمان في شخص المسيح الفادي وعمله الخلاصي.

فلا شك أنَّ الإيمان بالمسيح الفادي وبعمله الكفاري الخلاصي هو المدخل لهذه النعمة... نقول المدخل ولا نقول إنَّه كل شيء... هكذا يقول القديس بولس: "... رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي بِهِ أيضًا قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ" (رو 2،1:5)... فالإنسان الذي هو خارج الدائرة يحتاج أن يدخل أولًا، وبعد ذلك يُقال له ماذا ينبغي أن يفعل في الداخل... "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ... بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ" (رو 25،24:3)... "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ" (أف 8:2)...

على أنَّ هذه الآيات التي ترسم لنا التبرير بالإيمان بالنعمة المجانية، إنَّما هي توضيح للجانب الإلهي. لكن الخلاص الأبدي الأخير لا يناله الإنسان إلاَّ بما يقوم به هو من أعمال صالحة كتجاوب مع نعمة الله... وسنعرض لهذا فيما بعد.

 

(د) قلنا في النقطة السابقة إنَّ النعمة العامة المجانية نستحقها بالإيمان في شخص المسيح، ولم نقل إنَّنا ننالها بالإيمان... وقلنا عن الإيمان إنَّه المدخل فقط، لأنَّه هو الخطوة الأولى التي تفتح القلب لِقَبول الخلاص. ومع ذلك فليس الإيمان هو الذي يُخلِّص الإنسان، إنَّما الذي يُخلِّص الإنسان هو المعمودية(23)... "مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" (مر 16:16)... فالإيمان يجعل القلب في حالة القبول والاستعداد للخلاص، لكنَّه لا يُخلِّص. والخلاص لا يتم بغير المعمودية، التي ينقل بها الروح القدس إلينا استحقاقات المسيح الكفارية، وخلاصه الذي تممه بالصليب. نلاحظ قول الرب: "مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ"، ولم يقل " مَنْ آمَنَ" فقط. وأمَّا قوله "وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" فَلأنَّ الإيمان هو الخطوة الأولى التي تُمهد للخلاص. فإذا لم يوجد لدى الإنسان الإيمان، فإنَّه يُدان على عدم إيمانه، ولكن إذا وجد الإيمان، فليس بالإيمان يخلص، ما لم تأت الخطوة التالية وهي المعمودية.

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(19) Wuest; Studies in the Vocabulary of the greek N.T.; pp. 132-139.

(20) Torrance; The Doctrine of grace in the Apostolic Fathers; pp. 20،21.

(21) المقصود بالأعمال هنا، أعمال البشر السابقة للفداء.

(22) انظر: (أف 1: 4-6؛ 2تي 9:1؛ رؤ 6:21؛ 17:22).

(23) الأنبا غريغوريوس: مفهوم الخلاص في الكنيسة الأرثوذكسية - محاضرة في مؤتمر خريجى الكلية الإكليريكية في الفترة من 6 إلى 9 فبراير سنة 1967.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/anba-yoannes/apostolic-church/salvation.html

تقصير الرابط:
tak.la/mnva2kj