إن لم تنطلق من ذاتك يا أخي الحبيب من ذاتك هذه التي تعبدها من دون الله، والتي تكبرها وتفخمها أمام الناس، فلن تصل أبدًا إلى سمو انطلاق الروح.
لعلك تحب أحيانًا أن يمدحك الناس، ولقد تفاهمنا في مقال سابق عما يحسن بك فعله عندما يمدحك الآخرون. أما في جلستنا الهادئة هذه، فأود أن أسألك سؤالًا؟
ما هو شعورك وتصرفك عندما يسيء إليك الغير أو يظن بك الظنون؟
ربما تفكر في ذاتك أنك أُهِنْت، وربما تفكر في كرامتك وهيبتك والاحترام الواجب لك: فتغضب وتثور، وتثأر لذاتك، وتدافع عن نفسك. لست أنكر عليك هذا، فأنا إنسان في الجسد مثلك جربت هذه المشاعر جميعا، أو جربت بهذه المشاعر جميعًا ولكن دعنا نناقش الأمر معًا.
ماذا يفيدك الغضب؟ إنه يعكر دمك. ويتلف أعصابك وأخطر من ذلك كله أن الغضب يفقدك سلام القلب وراحته. ألم تسمع معلمنا يعقوب الرسول يقول: "إن غضب الإنسان لا يصنع بر الله" (يو20:1). وغضبك من أجل ذاتك هو لا شك غضب إنساني كالذي يقصده معلمنا يعقوب. تقول أن هذا الغضب ينفس عنك، ويفرج عن الثورة المكبوتة في داخلك. ولكن لماذا تختزن في داخلك ثورة مكبوتة تحتاج إلى تنفيس؟ السبب في ذلك واضح طبعًا، هو أنك تفكر كثيرا في ذاتك! انطلق يا أخي الحبيب من هذه الذات وأنت تستريح.
إن أهنت فلا تفكر في ذاتك انك أهنت. وإنما في ذلك الذي أهانك، أنه أخوك. وأنت كشخص روحي ممتلئ بالمحبة، عليك أن تفكر في هذا الأخ الذي أخطأ: ماذا تفعل لأجله. أنك لا تريد طبعًا أن تنحدر نفسه الغالية إلى الجحيم، ولا تريد أن تقف إهانته لك عقبة في طريق خلاصه. لذلك فأنت تطلب إلى الله ألا يقيم له هذه الخطية ولا يعاقبه عليها، ثم أنت أيضًا تصلي من أجله أن يخلصه الله من الخطية ذاتها فلا يعود إلى اقترافها معك أو مع غيرك.
وعندما تفكر في أخيك هذا الذي أهانك، قد تفكر في السبب الذي جعله يفعل ذلك. ربما يكون مريضًا أعصابه متلفة، أو متعبا عقله مجهد، أو قواه منهكة، أو مرهقا بمشاكل اجتماعية أو دراسية، أو مالية... فأنت تفكر فيما يمكن أن تفعله لأجله، وهكذا قد تخطر ببالك رحله أو نزهة لطيفة تدبرها له، أو قد تساهم بجهد في التخفيف أو الترفيه عنه. وأن لم تستطيع شيئًا من هذا كله فعلى الأقل ترثي له، وتطلب له من الله معونة خاصة.
إن الناس يا أخي الحبيب لم يخلقوا أشرارًا، لأن الله بعدما خلق الإنسان "نظر إلى كل ما فعله فإذا هو حسن جدًا" وأما الشر فإنه يأتي إلى الناس من الخارج دخيلًا عليهم...
وهذا الشخص الذي أهانك، ربما تكون لإهانته لك أسباب أخرى. وربما يكون قد أساء فهمك. ومثل ذلك تفاهم معه وأقنعه في وداعة ومحبة.
ولكن هناك نوعًا من الناس يهين الآخرين حبًا في أهانتهم مستغلًا تسامحهم ليتخذهم مجالًا للفكاهة والتندر. مثل هذا الصنف أما أن تبتعد عنه، وأما أن تكلمه بلهجة حاسمة وحازمة مؤدبة مظهرًا له خطأه، ومانعًا إياه من تكراره. ولتفعل هذا ليس على سبيل الثأر للنفس، أو الاحتفاظ بكرامة ذاتية، وإنما حبا في ذلك المخطئ حتى لا تترك له فرصة أخرى للخطأ، ومجالا يسقط فيه ويهلك بذلك نفسه...
وشتان بين توبيخك لخاطئ بغرض انتقامي، توبيخا يجعله يثور عليك ويحتك بل، وبين تأنيب المحبة الحازم الهادئ الذي يشعر فيه الشخص أن مؤنبه يحبه...
هذا كله عن موقفك من جهة الشخص الذي تشعر أنه أهانك، ولكن اسمح لي أن أدخل قليلًا إلى أعماق نفسك لأناقش شعورك الباطن بينك وبين نفسك.
1) لماذا تحسب الكلام الذي يقوله غيرك أنه إهانة، أو انه شتيمة؟ لماذا لا تكون تلك التي تحسبها أهانه هي كلمة صريحة لازمة لإصلاح نفسك؟ وان كنت قد تضايقت منها فذلك لأنك تحب المديح، وتريد أن يقول فيك جميع الناس حسنًا. افرح يا أخي بانتقاد الناس وتأنيبهم، فان ذلك صالح لك وينقيك ويفيدك في حياتك الأخرى. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). إذا انتقدك شخص فأولي بك أن تشكره فربما يكون قد أرسل هذا الإنسان ليرشدك ويظهر لك أخطاك حتى تتركه.
2) ربما تكون تلك الإهانات تأديبًا لك من الله على خطايا أخرى اقترفتها في ماض قريب أو ماضي بعيد. وعندما سمع داؤد إهانة كهذه قال في انسحاق: "الله قال لهذا النبيالإنسان اشتم داود" (2صم10:16). عندما يهينك غيرك يا أخي الحبيب تذكر خطاياك الماضية، واعرف أنك لست بالشخص الخالص النقاوة الذي يسمو عن التوبيخ...
3) في بعض الأحيان يكون الله قد عمل عملا ناجحا عن طريقك، فاتخذت أنت هذا النجاح سلاحًا تنتفخ به، وتحارب نفسك بالبر الذاتي، وخشى الله عليك من السقوط عن طريق الكبرياء فسمح أن تُهان، حتى يوجد توازنا بين مشاعرك، ويخفف شيئًا من كبرياءك. كثيرون من الذين يهانون متكبرون، أما الودعاء فيرفعهم الله من المزبلة ليجلسهم مع رؤساء شعبه "مز112".
4) ربما تكون قد أعثرت غيرك بتصرفك وأنت لا تدري، وكان هذا هو سبب أهانتك. لذلك يحسن أن تدرس وجهة نظر من أهانك، لعله على حق.
5) قد تكون هذه الإهانة درسا لك في المحبة والاحتمال. قال لي أحد الآباء الروحيين عن راهب اعتزل ولم يختلط بالأخوة في المجمع "إن فترة الوجود في المجمع لازمة للراهب. لأنه أن لم يستطع أن يحتمل مشاكسات الأخوة في المجمع، فكيف يستطيع أن يحتمل محاربات الشياطين في الوحدة كما قال مار اسحق!!
6) ماذا يضيرك عندما يحكم عليك إنسان حكما ظَالِمًا. أو عندما يظن فيك أنك مخطئ؟ ألعل هذا يعوقك عن ملكوت الله، أم أن الله سيعتمد أحكام الناس؟
7) أم أنك تحب المديح والتطويب من بشر هم تراب مثلك؟ سيدك يا صديقي "ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه" (اش7:53). "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ" أما هو فقبل هذا الصليب...
8) أخيرًا يا أخي الحبيب، إذا أهنت فتضايقت، وكبرت عليك الإهانة على الرغم من أنك خاطئ مثلي، فتذكر كيف أننا نهين الله فيصبر علينا ويحبنا ويقبلنا إليه! ما أعظم إلهنا الحنون ليس له شبيه بين الآلهة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/tx22w8g