St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

423- هل عندما قال السيد المسيح: "خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي... اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي" (مت 26: 26 - 28) كان قوله مجازي رمزي مثل قوله: "أَنَا هُوَ الْبَابُ" (يو 10: 9)، و" أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ " (يو 14: 6)، و" أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ" (يو 15: 1)، ومثل قول بولس الرسول: "كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ " (1 كو 10: 4)، وقوله: "هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ" (غل 4: 25)، إذ كيف يأكل التلاميذ جسده ويشربون دمه وهو ما زال واقفًا أمامهم؟ وهل قال الآباء الأوائل بالرمزية؟ وكيف نصدق الاستحالة التي تكذبها الحواس التي تؤكد أن الخبز ما زال خبزًا والخمر ما زال خمرًا بعد الصلاة عليهما؟ وهل الإيمان بالاستحالة يعني أننا نصلب المسيح مرات عديدة بينما الصلب حدث مرة واحدة؟

 

س423: هل عندما قال السيد المسيح: "خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي... اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي" (مت 26: 26 - 28) كان قوله مجازي رمزي مثل قوله: "أَنَا هُوَ الْبَابُ" (يو 10: 9)، و" أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ " (يو 14: 6)، و" أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ" (يو 15: 1)، ومثل قول بولس الرسول: "كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ " (1 كو 10: 4)، وقوله: "هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ" (غل 4: 25)، إذ كيف يأكل التلاميذ جسده ويشربون دمه وهو ما زال واقفًا أمامهم؟ وهل قال الآباء الأوائل بالرمزية؟ وكيف نصدق الاستحالة التي تكذبها الحواس التي تؤكد أن الخبز ما زال خبزًا والخمر ما زال خمرًا بعد الصلاة عليهما؟ وهل الإيمان بالاستحالة يعني أننا نصلب المسيح مرات عديدة بينما الصلب حدث مرة واحدة؟

ويقول "القس رفعت فكري" في محاضرته عن توضيح عقيدة الكنيسة الإنجيلية المشيخية في العشاء الرباني ما معناه أن هناك أربعة آراء في فريضة العشاء الرباني، الأول: رأي زونكلي الذي يعتقد أن فريضة العشاء الرباني مجرد ذكرى، وهيَ نظرة محدودة وغير كاملة، لأن الفريضة تحتوي الذكرى والإخبار بموت الرب وقيامته وانتظار مجيئه. الرأي الثاني: رأي لوثر وهو محاولة للتوفيق بين الكنيسة التقليدية وزونكلي يتلخص في الحلولية (الحلول المزدوج) فالخبز والخمر لا يتحوَّلان في جوهرهما إلى جسد ودم المسيح، إلاَّ أن المسيح يكون حاضرًا في فريضة العشاء الرباني ويرافق العنصرين بطريقة سرية، والذي يؤمن بهذا بحسب إيمانه يكون له ويكون للعنصرين فائدتهما، والرأي الثالث: رأي جون كلفن وهو أن فاعلية العشاء الرباني ليست ذاتية فيه، لكنها تُحفظ بواسطة الروح القدس الذي يرافق العناصر ويوصل الفوائد الروحية للقلوب التي تتناوله بالإيمان. فهو حلول روحي لا جسدي، وهذا هو رأي الكنيسة المشيخية.

أما الرأي الرابع: فهو رأي الكنائس التقليدية التي تؤمن بالاستحالة.

لماذا لا يؤمن الإنجيليون بالاستحالة؟

1- لأن المسيح عندما أجرى هذه الفضيلة كان جالسًا مع التلاميذ بشحمه ولحمه، فكيف يبذل جسده وهو معهم بجسده؟

2- الآباء الأوائل قالوا بفكرة الرمزيَّة وليس التحوَّل، أكليمنضس، أوريجانوس، ترتليانوس، كبريانوس. قال:

"يوسابيوس القيصري" سنة 330م: "تذكار ذبيحة المسيح على المائدة بواسطة رموز الجسد والدم".

أثناسيوس في شرح يوحنا أصحاح 6 قال: "إن مناولة جسد المسيح ودمه حقيقة أمر لا يُقبَل، والمعنى الذي يقصده المسيح في هذه الآيات لا يُفهم إلاَّ روحيًا".

غريغوريوس النيزينزي سنة 380م قال: "إن عناصر الإفخارستيا رموز جسد المسيح ودمه ".

ويوحنا فم الذهب سنة 400م قال: "إن الخبز المُقدَّس يستحق أن يُسمى جسد الرب مع أن الخبز لم يزل على حقيقته".

أُغسطينوس سنة 420م قال: "قول المسيح أن يعطينا جسده لنأكل لا يجوز فهمه جسديا، لأن نعمته لا تُقبَل بالأسنان. وأن قول المسيح هذا هو جسدي كان بمعنى أن الخبز وُضِع علامة لجسده".

ثيؤدوسيوس سنة 450م قال: "إن العناصر إنما هيَ رموز سريَّة".

3- شهادة الحواس تقول أنه بعد الصلاة ما زال الخبز خبزًا والخمر خمرًا، فشهادة الحواس تؤكد أنه لم يحدث تحوَّل.

4- السيد المسيح استخدم رموزًا عديدة، مثل قوله " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ" و" أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ"، وقال بولس الرسول: "صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ".. هل المسيح تحوَّل إلى طريق، وكرمة، وصخرة ؟ كان المسيح يتكلم بطريقة رمزية مجازية، كما قال " أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ" و" أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ".. فهل يصلح أن نأخذ تلك الأمور بطريقة حرفية؟!

5- الإيمان بالاستحالة يعني الإيمان بتكرار ذبيحة المسيح كل أسبوع، بينما الذبيحة قُدمت مرة واحدة على الصليب، والمسيح قال " قَدْ أُكْمِلَ". أيضًا الذبيحة لا بد أن تكون دموية، لأنه بدون سفك دم لا تحدث مغفرة.

St-Takla.org                     Divider     فاصل موقع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - أنبا تكلا هايمانوت

ج: عندما احتج "مارتن لوثر" و"زونكلي" و"جون كالفن" على الكنيسة الكاثوليكية حطموا كل الثوابت -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وسجل التاريخ أن أتباعهم انتهكوا حرمة الكنائس فحطموا المذابح والصلبان وحرقوا أيقونات وأجساد القديسين، واشتعلت الحروب في أوربا، فلوثر الذي حفز الفلاحين على الانتقام من الأمراء حتى أحرقوا قصورهم وممتلكاتهم، وعندما استأجر الأمراء جنودًا إنقلب مارتن لوثر إلى النقيض وحفز الأمراء ضد الفلاحين قائلًا: "اقتلوا هؤلاء الفلاحين ككلاب مسعورة"، خلَّفت ثورة الفلاحين هذه نحو مائة ألف قتيل، وعندما هاجم أتباع لوثر روما خلفوا وراءهم أكثر من خمسين ألف قتيل، ناهيك عن الآثار التي ترتبت على حرب الثلاثين عامًا (1618 - 1648م) من دمار وحرق وقتل وخراب، حتى قُتل في أيرلندا مائة ألف شخص، وقُتل ثُلث شباب ألمانيا، وساد الخراب والدمار من جراء هؤلاء الذين يدعونهم الأخوة البروتستانت بالمصلحين، وهذا ما دعاني إلى وصفهم بأوصاف تتفق مع سلوكياتهم، فكتبت عن: "مارتن لوثر وبحور الدماء"، و"زونكلي... الراعي القاتل"، و"جون كالفن... الحاكم بأمر اللَّه" (راجع كتابنا: يا أخوتنا البروتستانت... هلموا نتحاور جـ1 في الماضي).

وفيما كان هؤلاء المصلحون يحطمون كل شيء تطرَّف زونكلي لأقصى اليسار مُنكرًا كل أسرار الكنيسة بينما أبقى لوثر على المعمودية والإفخارستيا معتبرًا إياهما فريضتين، وكانت قد ظهرت نظرية "الحلول المزدوج" في القرن الحادي عشر، ومن الذين نادوا بها "برانجر" Berenger الذي يقر بأن المسيح يحل في الخبز والخمر بطريقة فعلية حقيقية حرفية، بينما يظل الخبز والخمر على أصولهما كما هما، فالخبز ما زال خبزًا بعد التقديس وكذلك الخمر ما زال خمرًا كما كان قبل التقديس، ورفضت الكنيسة الكاثوليكية هذه النظرية، لأنها تؤمن بالتحوُّل الكلي. وتمسَّك مارتن لوثر بنظرية الحلول المزدوج، واختلف مع زونكلي وكارلستات اللذان أنكرا نظرية الحلولية، وحاول "فيليبس" حاكم مقاطعة هس أن يُوحّد الصفوف بينهم، ولكن لوثر كان محتدًا جدًا حتى أنه رفض أن يصافح زونكلي، وكتب أمامه عبارتي "هذا هو جسدي".. "هذا هو دمي"، وكلما اشتد الحوار كان يشير إليهما قائلًا: "هذا ما قاله المسيح... أنني واثق تمامًا بأن اللَّه لا يكذب، وبما أن كلمته تُعرّفنا أن جسد ودم يسوع موجودان في هذه الفريضة فيجب تصديق هذا الأمر" وفشلت محاولة التوفيق، ولا عجب فإن البروتستانتية والإنشقاق صنوان لا يفترقان. انظر كيف بدأت البروتستانتية بثلاثة آراء وانتهت إلى مئات وآلاف الشيع والأطياف!!! وشرح مارتن لوثر نظرية الحلول المزدوج في كتابه: "أسر الكنيسة البابلي" وأيضًا في كتب أخرى، وركز عليها في عظاته رافضًا آراء القائلين بالتفسير الرمزي أو المجازي أو الإستعاري. (راجع تاريخ الاصلاح في القرن السادس عشر الكتاب الحادي عشر - الفصل الحادي عشر ص524 - 529، والكتاب الثالث عشر - الفصل السابع ص670 - 689).

 

St-Takla.org Image: Baroque art: The Last Communion of Saint Mary of Egypt, 1690 - Marcantonio Franceschini (Italian, Bolognese). صورة في موقع الأنبا تكلا: من فن الباروك: المناولة الأخيرة للقديسة مريم التائبة - لوحة عام 1690 - الفنان الإيطالي مارك أنطونيو فرانسيسكيني.

St-Takla.org Image: Baroque art: The Last Communion of Saint Mary of Egypt, 1690 - Marcantonio Franceschini (Italian, Bolognese).

صورة في موقع الأنبا تكلا: من فن الباروك: المناولة الأخيرة للقديسة مريم التائبة - لوحة عام 1690 - الفنان الإيطالي مارك أنطونيو فرانسيسكيني.

ويقول "الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا" أن مارتن لوثر قال "أنا لا أرفض الحضور الحقيقي للمسيح في الإفخارستيا، ولكنني لا أؤمن بتحوَّل الخبز والخمر إلى جسد ودم، إنما أؤمن أن الرب يحضر بجسده ودمه فوق الخبز والخمر. أما الكنائس اللوثرية بعد ذلك قالوا في صيغة الإتفاق مع الكنائس الأخرى سنة 1577م أن: "جسد المسيح يُقدَم للمؤمنين في قرابين الإفخارستيا معها وتحتها" ومعنى "معها" أي متحد بها، ومعنى "تحتها" أي تحت أعراض الخبز والخمر، فكانوا أحسن حالًا من فكر مارتن لوثر (عظة عن الإفخارستيا في 7/2/2019).

 

والآن دعنا يا صديقي أن نناقش باختصار الأسباب الخمسة التي ذكرها دكتور رفعت فكري لرفض البروتستانت موضوع الاستحالة:

أولًا: قالوا: كيف يأكل التلاميذ جسد المسيح ويشربوا دمه، والمسيح قائم أمامهم بجسده وشحمه ولحمه..؟ لم يأكل التلاميذ جسد المسيح الذي وُلِدَ من العذراء مريم، ولا نحن نأكل لحم إنسان ونشرب دمه، لأننا لسنا من أكلة لحوم البشر، وناقشنا ذلك بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى س421، إنما نحن نأكل الخبز الذي يتحوَّل إلى جسد المسيح بطريقة سريَّة فائقة للطبيعة، ونشرب مزيج عصير الكرمة والماء الذي يتحوَّل إلى دم المسيح بطريقة سريَّة وفائقة للطبيعة، ونحن نؤمن أننا نتناول من جسد المسيح ودمه بحسب قوله الإلهي، وحاشا للَّه أن يكذب، فهو الذي قال: "خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي".. "اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي" ونحن في كل مرة نقول " آمين" فهكذا الكاهن عند مناولة الجسد لأي إنسان يقول له: "جسد حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا يطهر من كل خطية" ويقول المتناول " آمين".

وهل عندما يخبر الطبيب مريضًا بالأنيميا أنه في حاجة إلى الحديد، فهل يمسك المريض قطعة حديد أو عود حديد ليأكله؟!.. بلا شك لا، لأنه لو حاول أن يأكل الحديد لتهشمت أسنانه وما فلَّ الحديد. إنما هذا المريض يذهب إلى الصيدلية ويشتري "أقراص الحديد"، وهذه الأقراص ليست لها شكل ولا صلابة الحديد، ولكنه يؤمن أنه عندما يبتلع هذه الأقراص ستتحوَّل في جسده إلى حديد يُخلصه من الأنيميا التي تلاحقه، فإن كانوا يقبلون هذه الحقيقة ويأخذون الحديد في شكل أقراص، فلماذا يحتجُّون على قول المسيح أن هذا الخبز هو الجسد الحي النازل من السماء الذي يغفر الخطايا ويهب الثبات في المسيح والحياة الأبدية؟!!.. ألم يُولَد يسوع طفلًا صغيرًا وزنه نحو ثلاث كيلو جرامات، وعندما بذل جسده ألم يكن وزنه نحو سبعين كيلو جرامًا، وألم تتحوَّل الخبزة التي كان يأكلها إلى جسده؟ وهكذا بنفس المقياس بسلطانه الإلهي القادر على كل شيء أعطى لهذا الخبز الكائن على المذبح أن يتحوَّل إلى جسده المقدَّس، والخمر إلى دمه الطاهر لمغفرة الخطايا، وحياة أبدية لكل من يتناول منه. ويقول "الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا" عندما يسألك أحد كيف يُعطي السيد المسيح جسده ودمه لتلاميذه ليأكلوا ويشربوا وهو جالس أمامهم بجسده..؟ قل له يمكنك أن تسأله هو، فهو الذي قال هذا، وطالما هو قال هكذا فليكن اللَّه صادقًا... وهو الذي قال " خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي". قال خذوا أشربوا " هذَا هُوَ دَمِي" ولم يقل هذا يشير إلى دمي (عظة عن الإفخارستيا في 7/2/2019م).

ثانيًا: هل الآباء الأوائل قالوا بالرمزية..؟ هذا إجحاف بالحقيقة، لأنه من يطلع على أقوال الآباء والليتورجيات التي وضعها هؤلاء الآباء القديسون جميعها تُعطي صورة واضحة، فالذي على المذبح بعد صلوات التقديس يتحوَّل إلى جسد حقيقي ودم حقيقي ليسوع المسيح ابن إلهنا، ونحن نتناوله تحت أعراض الخبز والخمر. ففي القداس الباسيلي الذي وضعه القديس باسيليوس الكبير يصرخ الكاهن: "الجسد المقدَّس"، ويجيبه الشعب: "نسجد لجسدك المقدَّس"، ويقول الكاهن: "والدم الكريم" ويجيبه الشعب: "ولدمك الكريم".

وفي صلاة القسمة يُصلي الأب الكاهن: "هوذا كائن معنا على هذه المائدة اليوم عمانوئيل إلهنا، حمل اللَّه الذي يحمل خطية العالم كله... مقدَّسة ومملوءة مجدًا هذه الذبيحة التي ذُبحت عن حياة العالم كله... آمين الليلويا. من أجل هذا صرخ مخلصنا الصالح قائلًا: "لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيه".

وقبل التناول يعلن الكاهن جهرًا: "جسد مقدَّس ودم كريم حقيقي ليسوع المسيح إبن إلهنا آمين".. "مقدَّس وكريم جسد ودم حقيقي ليسوع المسيح إبن إلهنا آمين".. "جسد ودم عمانوئيل إلهنا هذا هو بالحقيقة آمين"، وفي كل مرة يُجيب الشعب: "آمين". وفي آخر الاعتراف الذي يتلوه الشماس يقول: "صلوا من أجل التناول باستحقاق من هذه الأسرار المقدَّسة الطاهرة يا رب ارحم".

وفيما يلي نماذج من أقوال الآباء التي تتحدث بوضوح على أننا نتناول جسد المسيح ودمه في سرّ الإفخارستيا:

1- الشهيد أغناطيوس الأنطاكي (30 - 107م): قال: "الإفخارستيا هو جسد ربنا يسوع المسيح الذي تألم عن خطايانا، الذي أقامه اللَّه الآب" (141). كما قال أيضًا: "ضعوا في الاعتبار من يحمل أفكارًا مخالفة لنعمة يسوع المسيح والتي حلَّت علينا... امنعوا هؤلاء من الإفخارستيا والصلاة لأنهم لا يعترفون أن الإفخارستيا هيَ جسد مُخلصنا يسوع المسيح، الجسد الذي تألم لأجل خطايانا، وأقامه الآب بصلاحه من الموت، أولئك الذين ينكرون عطية اللَّه يهلكون في مجادلاتهم" (سميرنا 6، 7) (أورده القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير - هل نتناول خبزًا وخمرًا أم جسدًا ودمًا، والقس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص84).

2- الشهيد يوستين (100 - 165م): قال: "الطعام الذي يصير "إفخارستيا" هو جسد ودم "يسوع المسيح الذي صار جسدًا ".." (142). كما قال أيضًا: "فإننا لم نقبل هذه الأمور كخبز أو شرب عاديين، وإنما كما تجسد يسوع المسيح مُخلصنا، إذ أخذ كلمة اللَّه جسدًا ودمًا لأجل خلاصنا، فأننا نتعلَّم أيضًا أن هذا الطعام الذي يتقدَّس خلال صلاة كلمته والذي يغذي دمنا وجسدنا بالتحوُّل، هو جسد ودم يسوع الذي صار جسدًا. فقد سلمنا الرسل في مذكراتهم التي تُدعى بالأناجيل ما قد أمروا به، ألاَّ وهو أن يسوع أخذ خبزًا وشكر وقال: "اِصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي، هذَا هُوَ جَسَدِي ". وأيضًا أخذ الكأس وشكر قائلًا لهم: "هذَا هُوَ دَمِي" وأعطاهم لهم وحدهم"(143).

3- القديس إيرينيؤس (120 - 220م): يقول: "لذلك فإن حين يحل (الروح القدس) يتسلَّم كلمة اللَّه الكأس الممزوج والخبز المصنوع، وتتحوَّل إلى إفخارستيا جسد ودم المسيح، فإن طبيعة أجسادنا تتغذى وتزيد وتثبت بهذه الأمور (حين نتناول منها) كيف يمكنهم أن يؤكدوا على أن الجسد لا يستطيع أن يقبل نعمة اللَّه والتي هيَ الحياة الأبدية. أنه يتغذى بجسد الرب ودمه... جسدنا هذا يتغذى من الكأس الذي هو دمه ويثبت في الخبز الذي هو جسده.."(144).

4- القديس أكليمنضس الإسكندري (150 - 215م): يقول: "إنه يقول كلوا جسدي واشربوا دمي، أن اللوغوس يقدّم هذا طعامًا ملائمًا لنا. أنه يقدم جسده ويسفك دمه... يا لهذا السرّ المدهش... أن نتناوله، أن نأخذه في نفوسنا، أن نضع المُخلص في قلوبنا لكي نحطم شهوات الجسد. الطعام هو الرب يسوع، كلمة اللَّه، الجسد الروحاني، المتجسد المقدَّس السماوي"(145).

 كما يقول أيضًا: "ومعنى أن نشرب دم يسوع، هو أن نصير شركاء في خلود الرب، لأن الروح هو حياة الكلمة، مثلما الدم هو حياة الجسد"(146).

5- العلامة أوريجانوس (185 - 245م): يقول: "وأنت يا من اعتدت أن تحضر الأسرار الإلهيَّة، اعلم كيف أنك حين تتناول جسد الرب، فأنك تحفظه بكل حرص ووقار لئلا يسقط أي جزء أو يضيع من هذه المقدسات. أنك تؤمن بالحق أنك تصير مُذنبًا إذا سقط أي جزء بسبب إهمالك" (عظة على سفر الخروج)(147).

 كما يقول: "هذا الخبز الذي أعلن عنه اللَّه " الكلمة " هو جسده، أنه الكلمة الذي يغذي النفوس، كلمة آتية من اللَّه " الكلمة " وطعام من الخبز السماوي. لقد وُضِع هذا الخبز على المائدة التي كُتب عنها " تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ " (مز 23: 5). هذا الشراب الذي أعلن اللَّه (الكلمة) أنه دمه هو الكلمة التي تسقي القلب بكل عجب. هذا الشراب هو ثمرة الكرمة الحقيقية الذي قال " أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ " (يو 15: 1) إنه دم العنب، الذي أنتج هذا الشراب حين اجتاز معصرة الآلام، كما أن الخبز هو كلمة المسيح، صُنِع من حبة الحنطة "التي وقعت في الأرض وماتت... فأتت بثمر كثير" (يو 12: 24، 25)" (تفسير إنجيل متى مت 26: 26 - 28)(148).

 وأيضًا يقول "العلامة أوريجانوس": "بعدما أكل التلاميذ الفصح مع معلمهم، وتناولوا خبز البركة، وأكلوا جسد الكلمة، وشربوا كأس الشكر، علَّمهم يسوع أن يسبحوا الآب على هذه العطايا، وأن يرتقوا من قمة إلى قمة" (149).

6- القديس كبريانوس (200 - 258م): يقول عن الذين يتقدمون للاستشهاد: ".. لكي لا نترك أولئك الذين نحثهم للدخول إلى المعركة بدون سلاح، يجب أن نحصنهم بحماية جسد ودم المسيح. أن الإفخارستيا قد أُسّست لأجل هذا السبب، لكي تكون حارسًا للمتناولين منها. فمن اللائق أن يتسلح أولئك الذي يريدون أن يكونوا في أمان ضد العدو (الشيطان) بحماية الرب الغنية. كيف نُعلّمهم ونحثهم أن يسفكوا دماؤهم من أجل الاعتراف بِاسمه إذا حرمناهم من دم المسيح؟ أو كيف نجعلهم لائقين لكأس الاستشهاد إذا لم نسمح لهم أولًا بالتناول من كأس الرب في الكنيسة؟" (الرسالة 53: 2) (150).

7- القديس أثناسيوس الرسولي (296 - 373م): يقول: "سوف ترون الشمامسة يحضرون الخبز وكأس الخمر ويضعونهم على المائدة، طالما لم تبدأ الصلوات، يوجد فقط مجرد خبز وخمر ولكن بعد النطق بالصلوات العجيبة والعظيمة، حينئذ يصير الخبز جسد ربنا يسوع المسيح والخمر يصير دمه... لنتقدم لنحتفل بالأسرار. طالما الصلوات والتضرعات لم تُتلى فإن هذا الخبز وهذا الخمر هيَ فقط (خبز وخمر) ولكن بعد النطق بالصلوات المقدَّسة يحل الكلمة في الخبز والخمر ليصيرا جسد الكلمة ودمه" (عظة للمعمدين حديثًا) (151).

 كما يقول "البابا أثناسيوس" أيضًا: "إن اتحادنا بالمسيح بتناولنا من جسده ودمه أسمى من كل اتحاد" (152).

8- القديس كيرلس الأورشليمي (315 - 386م): قال: "وحين يعلن المعلّم نفسه ويقول هذا هو جسدي من ذا الذي يجرؤ أن يشك، حين يكون هو نفسه يقول هذا هو دمي، من ذا الذي يستطيع أن يجادل ويقول أنه ليس دمه؟ لقد حوَّل الماء في قانا الجليل إلى خمر بإرادته العلوية وحده، إلاَّ يكون جديرًا بالتصديق أنه يحوَّل الخمر إلى دم؟!. لنتقدم بثقة كاملة ونتناول جسد ودم المسيح لأن جسده يقدم إليكم في شكل الخبز ودمه في شكر الخمر. هكذا بالتناول من جسد ودم المسيح تصيرون جسدًا واحدًا معه. وهكذا حين ينتقل جسده ودمه إلى أجسادنا نصير حاملين للمسيح.." (تعليم للموعوظين 4)(153).

9- القديس غريغوريوس أسقف نيصص (330 – 395م): يقول: "نحن نؤمن أن الخبز الذي تقدَّس بكلمة اللَّه يتحوَّل إلى جسد اللَّه الكلمة، أنه يتحوَّل إلى الجسد عن طريق الكلمة كما قال هو (هذا هو جسدي)" (154).

10-القديس أمبروسيوس (339 – 397م): يقول في حديثه عن الإفخارستيا: ".. ألاَّ تكن كلمة المسيح التي استطاعت أن تخلق من العدم ما لم يكن موجودًا، قادرة على تغيير الأشياء الموجودة فعلًا إلى ما لم تكن عليه..؟ وبمثَل التجسَّد تثبت حقيقة السرّ (الإفخارستيا)، هل ولادة الرب يسوع من مريم حدثت بالطريقة الطبيعية؟ الطريقة الطبيعية أن تتزوج المرأة رجلًا لكي تحمل وتلد. ولكن هذا الجسد الذي يُعطى لنا (أي الإفخارستيا) هو الذي وُلِدَ من العذراء. لماذا تبحثون عن نظام الطبيعة في جسد المسيح وأنتم ترون أن الرب يسوع نفسه وُلِدَ من عذراء ليس حسب الطبيعة؟

 إنه جسد المسيح بالحقيقة الذي صُلِب ودُفِن، وهذا هو بالحقيقة سر جسده. والرب يسوع نفسه يعلن "هذَا هُوَ جَسَدِي" (مت 26: 26) وقبل بركة الكلمات تكلم عن "الخبز" وبعد التقديس تكلم عن طبيعة أخرى، عن الجسد. هو نفسه يتكلم عن دمه الذي كان له اسم آخر قبل التقديس. أما بعد التقديس فهو دم" (155).

11-القديس يوحنا الذهبي الفم (347 – 407م): يقول: ".. ليس أحد من بين البشر هو الذي يحوّل الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح، ولكن المسيح نفسه الذي صُلب عنا. إن الكاهن يقف متمثلًا بالمسيح وينطق بالكلمات ولكن القوة والنعمة هيَ قوة ونعمة اللَّه. هذا هو جسدي، هذه الكلمات تحوَّل القرابين تمامًا مثل الكلمة " أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ" (تك 1: 28). بالرغم من أنها قيلت مرة واحدة فمنذ ذلك الحين وفي هذا الزمان وحتى يجيء، في كل الكنائس على كل مائدة تتم وتتحقق بها الذبيحة الكاملة" (156).

12-القديس أُغسطينوس (354 - 430م): قال: "الخبز الذي نراه على المذبح والذي تقدَّس بكلمة اللَّه هو جسد المسيح، والكأس، أي الذي تحتويه الكأس، والذي تقدَّس بكلمة اللَّه هو دم المسيح" (157).

13-القديس كيرلس الكبير (384 - 444م): يقول: "وبوضوح شديد قال: هذا هو جسدي... هذا هو دمي، لئلا تظنوا أن هذه مجرد رموز، إذ أنها قُدّمت بالحقيقية لكي تتحوَّل بالقوة السرائرية التي للَّه ضابط الكل إلى جسد ودم المسيح، والتي حين نشترك فيها نأخذ لنفوسنا قوة المسيح المُحيية والمقدَّسة" (عظات على إنجيل متى 26: 27) (158).. " لقد قال بكل وضوح هذا هو جسدي، وهذا هو دمي لذلك لا تظنوا أن الأشياء التي ترونها مجرد رموز، ولكن بطريقة غير مفحوصة تغيَّرت بواسطة اللَّه القادر على كل شيء إلى جسد ودم المسيح. حين نتناول منها نأخذ في أنفسنا قوة المسيح الذي تقدّس والمُعطية للحياة، لأنه كان من اللازم، بطريقة لائقة باللَّه وبالروح القدس الساكن فينا أن يتحد بأجسادنا عن طريق جسده المقدَّس ودمه الكريم" (شرح على إنجيل متى) (159).

 كما يقول "القديس كيرلس الكبير": "عندما نأكل جسد المسيح المقدَّس، مخلصنا جميعًا، ونشرب دمه الكريم ننال الحياة فينا، إذ نكون كما لو أننا واحد معه، نسكن فيه وهو يملك أيضًا فينا... لا شك فإن هذا حق ما دام يقول بنفسه بوضوح: "هذَا هُوَ جَسَدِي، هذَا هُوَ دَمِي " (يو 6)، بل تقبل كلمة المخلص بإيمان، إذ هو الحق الذي لا يقدر أن يكذب" (160).

وما أوردناه هنا مجرد نذر يسير من كم ضخم من أقوال الآباء، فمن يُريد المزيد له أن يرجع إلى عشرات الكتب التي تتحدث عن سر الإفخارستيا (راجع المسيح في سرّ الإفخارستيا للقمص تادرس يعقوب، والإفخارستيا عند القديس كيرلس الإسكندري للدكتور موريس تاوضروس، وتعليم القديس أيرينيؤس عن الإفخارستيا من كتاب الكرازة الرسولية للقديس إيرينيؤس، والإفخارستيا في لاهوت يوستينوس للأب جورج رحمة الراهب الأنطوني، والإفخارستيا في تعليم القديس باسيليوس الكبير إعداد الأب إلياس كوتير، والإفخارستيا عند كبريانوس القرطاجي اللاهوتي للأب جورج رحمة الراهب الأنطوني، ولنفس المؤلف أيضًا سرّ الإفخارستيا عند ترتليانوس، والإفخارستيا في كتاب أكليمنضس الإسكندري، وأوريجانوس ومفهومه لسرّ الإفخارستيا، والإفخارستيا والصليب (رسالة دكتوراه) للقمص دانيال ماهر إسكندر، وأسرار الكنيسة السبعة للقديس حبيب جرجس، وهل نتناول خبزًا وخمرًا أم جسدًا ودمًا للقمص عبد المسيح بسيط... إلخ).

 

ثالثًا: قالوا أن شهادة الحواس تؤكد أنه لم يحدث تحوُّل للخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح... والحقيقة أن الأسرار أمور تفوق الحواس الجسدية، مثلما يفوق الإيمان العقل، فالعقل البشري يستطيع أن يؤكد لنا وجود خالق لهذا الكون، لأنه من المستحيل أن الكون يخلق نفسه، ولكن لو سألت العقل لكيما يحدثك عن طبيعة هذا الخالق لعجز تمامًا عن الإجابة. إذًا العقل يسير بنا إلى مرحلة معينة في طريق معرفة اللَّه، ثم يقف عاجزًا. أما الإيمان فيستطيع أن يكمل معنا المسيرة للملكوت. هكذا الأمر بالنسبة للحواس الجسدية والإيمان، فمياه المعمودية نراها بأعيننا ويلمسها الكهنة بأيديهم، فهيَ مياه عادية، ومن جهة التحليل الكيميائي لا تختلف عن أية مياه أخرى، ولكننا بالإيمان نثق أنها تقدَّست بالصلاة والميرون فصار لها القوة لمغفرة الخطايا والولادة الجديدة، وهكذا الخبز والخمر لو تم تحليلهما فلن يختلفا عن أي خبز وخمر آخرين، ولكننا نثق أنهما تحولا إلى جسد الرب ودمه، ولأنه ليس من المعقول أن نأكل جسد إنسان ونشرب دمه، لذلك قدم اللَّه جسده ودمه تحت أعراض الخبز والخمر بقوته الإلهيَّة.

ثم منذ متى صارت الحواس الجسدية حكمًا وفيصلًا في الأمور الإيمانية؟!!

قل لي هل تدرك الحواس وجود اللَّه والملائكة والأرواح؟!!

هل تستطيع الحواس أن ترى الأرواح أو تسمعها أو تشمها أو تتذوقها أو تلمسها؟!!.. فكيف تؤمن بها؟!!.

يقول "القديس أُغسطينوس": "الذي تراه هو خبز وكأس وعيناك تؤكدان ذلك، ولكن ما يتطلع إليه إيمانك هو أن الخبز جسد المسيح، والكأس هيَ دم المسيح" (161).

ويقول "القديس كيرلس الأورشليمي": "فلا تنظر إلى الخبز والخمر كأنهما عنصران طبيعيان، إنما كأنهما جسد ودم، كما قال ذلك المعلم نفسه. والحق يُقال أن الحواس توحي إليك بذلك، فليُعطيك الإيمان والثقة التامة، لا تحكم في المجال بحسب التذوق ولكن إمتلئ ثقة بحسب الإيمان. أنت الذي وُجِد أهلًا لتناول جسد المسيح ودمه الآن وقد تعلمت واقتنعت أن ما يبدو خبزًا ليس خبزًا وأن يكن له طعم الخبز، ولكن جسد الرب. وأن ما تبدو خمرًا ليست خمرًا، وأن يكن طعمها كذلك، ولكن دم المسيح. أكد لقلبك بتناولك هذا الخبز من أنه خبز روحاني وأبهج وجه نفسك" (راجع القمص عبد المسيح بسيط - هل نتناول خبزًا وخمرًا أم جسدًا ودمًا).

ويقول "القديس كيرلس الكبير": "تعلمنا هذه الأمور وامتلأنا بإيمان لا يهتز أن هذا الذي يبدو خبزًا ليس خبزًا، على الرغم من أنه له طعم الخبز، بل هو جسد المسيح، وأن الذي يبدو خمرًا ليس خمرًا، على الرغم من أن له مذاق الخمر، بل هو دم المسيح" (راجع القمص عبد المسيح بسيط - هل نتناول خبزًا وخمرًا أم جسدًا ودمًا).

 

رابعًا: قالوا أن السيد المسيح استخدم رموزًا عديدة، فهل عندما قال " أَنَا هُوَ الْبَابُ" و" أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ" أو " أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ" تحوَّل إلى طريق أو كرمة..؟ والحقيقة أن استخدام السيد المسيح رموزًا لا يعني أن كل كلامه صار رموزًا، والتفسير الواحد لجميع التشبيهات أمر خاطئ، ولو أخذنا بهذا لصار حديث السيد المسيح عن مجيئه الثاني والدينونة والملكوت وجهنم النار... إلخ رموزًا... فمن يقبل هذا؟ وهل عندما قال السيد المسيح " أَنَا هُوَ الْبَابُ" أمسك بابًا وقال هكذا؟ وهل عندما قال " أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ" أمسك قطعة من الطريق وقال هكذا؟ أما السيد المسيح عندما قال لتلاميذه " خُذُوا كُلُوا هذَا هُوَ جَسَدِي " فهو أعطاهم فعلًا ما يأكلونه، وعندما قال " هذَا هُوَ دَمِي" أعطاهم فعلًا ما يشربونه. لقد قدم السيد المسيح لتلاميذه هذا السرّ العظيم في وقت عصيب جدًا إذ كان الصليب على الأبواب، فالموقف لا يحتمل التكلم برموز، ولو كان هذا الخمر ما زال خمرًا فقط وهو مجرد رمز لدم المسيح... فكيف يمكن أن يغفر الخطايا... ألم يقل المسيح: "لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مت 26: 28)؟!!. واستخدام السيد المسيح ضمير الإشارة " هذَا" يؤكد حقيقة الحدث، وفي النص اليوناني لا يُوجد ضمير الغائب "هو" بل فعل الكينونة "يكون"، وبالتالي يمكن ترجمة "هذَا هُوَ جَسَدِي" إلى "هذا يكون جسدي"، وعبارة " هذَا هُوَ دَمِي" إلى "هذا يكون دمي"، والفعل "يكون" لا يترك أي مجال للرمزية.

ويقول الكاتب القبطي في القرن الرابع عشر "جرجس بن العميد": "نؤمن، أن الخبز وعصير الكرمة اللذين يُقدمان اليوم في الكنيسة، يتحوَّلان بنعمة الروح القدس إلى جسد ودم المسيح، اللذان سلمهما السيد إلى تلاميذه في العشاء السري. هذه العناصر أي الخبز وعصير الكرمة ليست هيَ مثال لجسد ودم المسيح، لكن هيَ بنفسها جسده ودمه. فالسرّ الذي سلَّمه السيد المسيح والسرّ الذي يتمم باستمرار منذ ذلك الوقت وحتى اليوم في الكنيسة ليس بينهما أي اختلاف إطلاقًا، لأن... قوة التقديس التي عملت في ذلك الوقت في الخبز وعصير الكرمة هيَ نفسها التي تعمل حتى الآن في كل إفخارستيا لا تتغيَّر ولا تُستنفذ" (مختصر البيان في تحقيق الإيمان - الحاوي - مخطوط 325 لاهوتي - مكتبة البطريركية القبطية - إصدار القمص تاوضروس شحاته، بدون تاريخ ص63، 65) (162).

والتعبيرات التي استخدمها السيد المسيح عن جسده أنه "مبذول" وعن دمه أنه "مسفوك" تفيدان الاستمرارية، ويقول "دكتور مجدي وهبه": "الأحوال " مبذولًا " (لو 22: 19) و"مسفوكًا" (مر 14: 24، مت 26: 28، لو 22: 20) التي استخدمها السيد المسيح في وصف جسده ودمه تؤكد أن جسده باستمرار في حالة بذل ودمه باستمرار في حالة سفك.

إذ أن الحال في اللغة اليونانية يستخدم للتعبير عن أمر مؤكد حدوثه ليس له زمن محدَّد، وبالتالي في سرّ الإفخارستيا نحن أمام حقيقة التحوُّل المستمر للخبز والخمر إلى جسد ودم"(163).

 

خامسًا: يقولون أن الإيمان بالاستحالة يعني تكرار ذبيحة المسيح في كل قداس مع أن المسيح صُلب مرة واحدة وقال " قَدْ أُكْمِلَ".. والحقيقة أن الإفخارستيا ليست تكرار لصلب المسيح ثانية وثالثة وألف ومليون مرة، لكن الإفخارستيا هيَ امتداد لذبيحة الصليب. ويقول "الأنبا بيشوي مطران دمياط وكفر الشيخ ورئيس دير القديسة دميانة" في سلسلة محاضرات تبسيط الإيمان: "125- مائدة الرب في الإفخارستيا هيَ إمتداد وليس تكرار: مذبح الرب الذي هو مائدة الرب في الإفخارستيا هو نفسه الصليب... فذبيحة الصليب هيَ واحدة لا تتكرَّر، لكنها تمتد. لم تمتد ذبيحة الصليب بعدها فقط، بل امتدت قبلها أيضًا، بدليل أن السيد المسيح قدم جسده ودمه في ليلة آلامه بنفسه قبل صلبه. فذبيحة الإفخارستيا (سرّ الشكر) من الممكن أن تمتد عبر الزمان لأن هذا سرّ فائق وسرّ إلهي نقول عنه في القداس الإلهي: "ووضع لنا هذا السرّ العظيم الذي للتقوى".. "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى" (1 تي 3: 16)".

ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "ألا نقدم الذبيحة يوميًا؟

نعم نقدمها... وهيَ ذبيحة وحيدة غير متكررة.

لقد قُدمت مرة، ودخل إلى قدس الأقداس.

الأنامنسيس هو علامة موته، فإن ما نُقدمه هو ذات الذبيحة، فلا نقدم اليوم ذبيحة وغدًا أخرى مغايرة.

واحد هو المسيح في كل مكان، كامل في كل موضع، جسد واحد فإذ يُوجد جسد واحد في كل مكان تكون الذبيحة واحدة في كل موضع. هذه هيَ الذبيحة التي لا نزال إلى اليوم نقرُّ بها.." (164).

ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم" أيضًا: "ألسنا نحن نقدم كل يوم قرابين؟ نعم نقدم، ولكنا نصنع تذكار موته. وهذه الذبيحة التي نُقدمها كل يوم هيَ واحدة لا أكثر لأنه قُدّم مرة واحدة. لأننا دائمًا نقدم حملًا واحدًا بعينه، ولا نقدم الآن خروفًا وغدًا خروفًا آخر، بل الحمل نفسه دائمًا. فالذبيحة إذًا هيَ واحدة. أو هل المسحاء كثيرون، لأن الذبيحة تقدم في محلات (أماكن) كثيرة؟ حاشا، لأن المسيح واحد في كل مكان وهو هنا بكليته جسد واحد. وكما أنه يقدم في أماكن متعددة ولا يزال جسدًا واحدًا لا أجسادًا كثيرة هكذا الذبيحة هيَ أيضًا واحدة"(165).

ويقول " مار أفرام السرياني" (على لسان السيد المسيح): "إني أدعوه جسدي، وهو بالحق هكذا. فإن أصغر جزء منه يقدر أن يقدَّس ألوف النفوس ويكفي أن يهب حياة لمن يتناول منه" (166).

عندما نقدم قربان في كنيسة في القاهرة وقربان في كنيسة في الإسكندرية مثلًا، ونعمل قداس هنا وقداس هناك، فهذا ليس معناه أن هذه ذبيحة وتلك ذبيحة أخرى، أو أن هذا حمل وذاك حمل آخر، بل أنه حمل واحد ومسيح واحد الذي هو " حَمَلُ اللَّه الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يو 1: 29). إذًا جميع القرابين التي تُقدَم في جميع الكنائس في كل مكان وفي كل زمان، هيَ امتداد لذبيحة الصليب، وبذلك نستطيع أن نقول أن الإفخارستيا هيَ فعل إلهي فوق الزمن، وهيَ ذبيحة غير دموية، وفي صلاة الصلح بالقداس الإلهي يُصلي الأب الكاهن: "عندما أقمت لنا تدبير ابنك الوحيد والسرّ الخفي الذي لهذه الذبيحة، هذه التي ليس دم الناموس حولها ولا بر الجسد. أما الخروف فروحي وأما السكين فنطقية وغير جسمية هذه الذبيحة التي نُقدمها لك". وفي صلاة القسمة: "يا من بارك في ذلك الزمان الآن أيضًا بارك. يا من قدَّس في ذلك الزمان الآن أيضًا قدّس. يا من قسَّم في ذلك الزمان الآن أيضًا قسَّم. يا من أعطى في ذلك الزمان الآن أيضًا أعطى".

ويقول "دكتور غالي": "الرب بكل وضوح أخذ خبزًا، فهو في ظاهره خبز للعيان ولكنه بسرّ الشكر أي بسرّ الإفخارستيا تحوَّل إلى ما قال عنه رب المجد لفظًا حقيقيًا (جسدي) أي جسد حقيقي للرب يسوع... هل الرب يبالغ أو لا يعني ما يقول؟!..هو قال هذا، فهل أُصدِق كلام المسيح أم أعتبره كلام غير مقبول؟!!.. الرب يسوع المسيح قال وبكل وضوح لا يحتمل تأويل أن عصير الكرمة الذي في الكأس هو دم المسيح (دمي) مؤكدًا أنه بالإفخارستيا أي الشكر تحوَّل من خمر إلى دم حقيقي للرب يسوع المسيح... إذًا الذي نأخذه في الإفخارستيا هو دم المسيح الذي سُفك على عود الصليب، وأيضًا " يُسفَك " بتصريف المضارع المستمر عن طريق التلاميذ، وعن طريق المؤمنين في زمانهم، وعن كل العالم... سرّ الإفخارستيا الذي نأكل فيه الجسد ونشرب فيه الدم هو امتداد لذبيحة الصليب. كل قداس هو نفس الذبيحة، هو نفس المسيح في كل مكان وكل زمان، كما تشرق الشمس كل يوم، هيَ نفسها التي تشرق. ولو وضعت ملايين الأواني التي بها ماء لظهرت في كل منها صورة الشمس، فأي جوهرة صغيرة من الجسد هيَ تمثل المسيح كله. والسرّ معناه نوال نعمة غير منظورة تحت أعراض مادة منظورة، فما نتناوله هو خبز وفي الحقيقة هو جسد ودم.." (موقع هولي بايبل - التناول - سرّ الإفخارستيا).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(144) أورده القس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص95.

(145) المرجع السابق ص99.

(146) المرجع السابق ص99.

(147) المرجع السابق ص104.

 (148) أورده القس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص105.

(149) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - 1 - ب الإنجيل كما دوَّنه متى 14 - 28 ص366، 367.

(150) أورده القس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص107.

(151) المرجع السابق ص110.

 (152) محاضرات في علم اللاهوت الطقسي القبطي - الإفخارستيا سرّ الشكر 23 - أقوال الآباء في سرّ الشكر.

(153) أورده القس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص120، 121.

(154) المرجع السابق ص126.

(155) المرجع السابق ص130.

 (156) أورده القس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص132.

(157) المرجع السابق ص136.

(158) المرجع السابق ص141.

(159) المرجع السابق ص143.

(160) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص534.

 (161) أورده القس بنيامين مرجان - الإفخارستيا - الجذور الكتابية والأبائية ص136.

 (162) أورده د. مجدي وهبه - العشاء الأخير وأحاديث ما بعد العشاء ص52، 53.

(165) من عظات للقديس يوحنا ذهبي الفم على العبرانيين مقالة 17.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/423.html

تقصير الرابط:
tak.la/sx9amnb