St-Takla.org  >   pub_Bible-Interpretations  >   Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament  >   Father-Antonious-Fekry  >   23-Sefr-El-Gamaa
 

شرح الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص أنطونيوس فكري

الجامعة 1 - تفسير سفر الجامعة

 

محتويات:

(إظهار/إخفاء)

* تأملات في كتاب جامعة:
تفسير سفر الجامعة: مقدمة سفر الجامعة | الجامعة 1 | الجامعة 2 | الجامعة 3 | الجامعة 4 | الجامعة 5 | الجامعة 6 | الجامعة 7 | الجامعة 8 | الجامعة 9 | الجامعة 10 | الجامعة 11 | الجامعة 12

نص سفر الجامعة: الجامعة 1 | الجامعة 2 | الجامعة 3 | الجامعة 4 | الجامعة 5 | الجامعة 6 | الجامعة 7 | الجامعة 8 | الجامعة 9 | الجامعة 10 | الجامعة 11 | الجامعة 12 | الجامعة كامل

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح

← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

آية (1): "كَلاَمُ الْجَامِعَةِ ابْنِ دَاوُدَ الْمَلِكِ فِي أُورُشَلِيمَ:"

كلام الجامعة = هو سليمان الملك. ومعنى اسم سليمان هو "سلام". وفهمنا معنى كلمة الجامعة، ولكن هو أخفى اسمه، فالخطية التي عاشها فترة طويلة حطمت سلامه الداخلي فكيف يسمي نفسه سلامًا وهو في حزن وقلق، بل هو جلب المتاعب لنفسه ولمملكته. واستخدم اسم الجامعة لأن الله ضمه بعد توبته لكنيسته الجامعة، وهو يعظ بخبراته كل الكنيسة الجامعة، وما يكتبه هنا هو ملخص حكمته وخبراته التي جمعها في حياته، حكمته التي وهبها الله له، وخبراته العملية في حياته.

ابن داود الملك = هو يذكر بنوته لداود لسببين [1] يوبخ نفسه أن ابن ذلك القديس العظيم قد تاه وإنحرف. [2] ليبعث في نفسه الرجاء أنه كما قبل الله توبة داود سيقبل توبته.

في أورشليم = هذه أيضًا توبيخ لنفسه فهو بخطيته أخطأ في حق أورشليم مدينة الله التي أقامه الله فيها ملكًا على شعبه بعد أن أحسن إليه وأحبه، فصار قدوة سيئة لشعبها.

 

آية (2): "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، قَالَ الْجَامِعَةُ: بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ."

باطل الأباطيل= باطل= hebel معناها بخار أو شيء فانٍ، أو نسمة. كأنه يشبه العالم بنسمة تخرج من فم الإنسان أو بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل. وقوله باطل الأباطيل هو للتشديد أي أعظم الأباطيل مثل قوله نشيد الأناشيد بمعنى أحلى الأناشيد. وكلمة باطل تشير لأن العالم زمني عابر وبلا جدوى على المدى الأبدي. والعالم هو باطل إذا كان الإنسان في استخدامه للعالم بعيدًا عن الله، ولو لم يكن هناك حياة في العالم الآخر لكانت حياتنا عدم ولا شيء (مز47:89). على الإنسان منا أن يفهم أننا موجودين في العالم الآن لعمل محدد، وبعد أن ننتهي منه ننضم لمن سبقونا في الفردوس إلى أن تنتهي صورة هذا العالم ويأتي الرب يسوع في مجده. وبدون هذا الفهم سنرى العالم حقيقة أنه عبث. وما جعل العالم باطل هو إساءة استخدام الإنسان له. والحياة الروحية مع الله لا تتطلب كراهية العالم بل حب السماء والتمتع بالله المشبع للنفس وهذا ما يعزي الإنسان خلال رحلة آلام هذا العالم. وهذا لا يمنع من أن نستخدم العالم ولكن لا يكون هو هدفنا وشهوتنا. بل لا يكون هو محور تفكيرنا، فلو إنشغلنا فيه وبه لن ندرك الله السماوي، ولكي ندرك الله السماوي علينا أن نهرب أولًا من العالم في خلوة يومية مع الله لتستنير عيوننا ونفهم ونتعزى ولن يتعزى الإنسان الخاطئ لأنه قد فصل نفسه عن الله مصدر التعزية الوحيد .

لماذا صار الإنشغال بالعالم خطأ؟ الله خلق العالم حسن وصالح، ولكن الإنسان وقد فسد ذهنه وطبيعته وبصيرته الداخلية أساء النظر للعالم وأساء استخدامه فصار باطلًا، فلماذا صار العالم باطلا؟

1- الله خلق العالم خادمًا للإنسان فصار هدفا للإنسان يسعى للامتلاء من كل ملذاته، فحول الإنسان نفسه خادمًا للعالم، وصار يسعى للمجد الباطل والأفكار المتشامخة.

2- الله خلقنا لعمل محدد (أف2: 10) ننهيه وننطلق إلى الراحة. وصار الإنسان ينسى هذه الحقيقة ظانًا أنه باقٍ في العالم للأبد ناسيا أن العالم فترة مؤقتة وأنه ذاهب للسماء مكانه الحقيقي وأننا هنا غرباء. فماذا عملنا لحياتنا المستقبلية في السماء.

3- الله خلق الإنسان لمجده (إش43: 7) = الله خلقنا ليظهر محبته لنا ونظهر نحن جمال خلقته وينعكس علينا مجده فنتمجد. هذا كفنان يعمل صورا جميلة وتماثيل رائعة وينير المكان ويسقط النور على ما أبدعه الفنان فتظهر عظمة هذا الفنان. والله خلق الإنسان ليس فقط لتظهر فينا عظمة الخالق وقدراته، بل لنفرح في مجده وننعم بهذا المجد، وهذا كأب غني جدًا، هو ينجب أولادا ليسعدوا ويستمتعوا بهذا الغنى (تك15: 2، 3). والرب يسوع يقول [ليرى الناس أعمالكم الصالحة ويمجدوا أباكم الذي في السموات] (مت 5: 16)، وكيف نمجده؟ هذا بأن نشهد لجمال ومحبة هذا الآب السماوي فينجذب الكثيرين للإيمان فيتمجد الآب بهذا، إذ سيعكس مجد الآب كل هؤلاء الداخلين للمجد. لكن للأسف صار الإنسان لكبريائه يبحث عن مجده هو بالانفصال عن الله، وهذا يسمي مجد باطل لأننا سنترك هذا العالم الباطل ونمضي، فبماذا ننتفع بما كنا نهتم به على الأرض.

4- المجد الحقيقي هو أن نحيا في المسيح وينعكس علينا مجده، ولهذا تجسد المسيح ليمجد طبيعتنا البشرية فيه بعد أن كنا قد فقدناها بالسقوط (راجع تفسير يو17: 5، 17). ويظل كل من يبحث عن مجد لنفسه في هذا العالم بعيدا عن ثباته في المسيح فهو يسعى وراء الباطل، هذا هو قبض الريح.

فالعالم ليس شرًا في نفسه ولكن استخدام الإنسان يحول الشيء إلى خير أو إلى شر.

 

آية (3): "مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟"

سبق سليمان وقال في (أم23:14) "في كل تعب منفعة" فهل هناك تناقض مع هذه الآية، حين يقول ما الفائدة للإنسان من كل تعبه؟! قطعًا لا يوجد تناقض لمن يفهم غرض السفر. ففي سفر الأمثال يكلم الكسلان ليتحرك ويعمل ويجتهد، وهنا يكلم من يعمل ويجتهد وهو يظن أنه سيعيش للأبد، ويقول لمثل هذا، أنت لن تنتفع بكل ما تعمل تحت الشمس أي في هذا العالم بعد موتك، كل مكاسبك المادية (ثروة وعظمة..) لن تنفعك بعد موتك.. إن لم يكن هدفك في كل ما تعمل هو مجد الله. فلنعمل ونكسب وهدفنا مجد الله. فأنا لا بُد وسأموت وسيأتي الحساب. والمكاسب المادية ليست دائمة ولا تعطينا اللذة الحقيقية. فتعبنا في حياتنا اليومية لن يشبع النفس ما لم تكن لنا جلستنا اليومية مع الله ونطلب أن يعمل روحه القدوس فينا ويشترك معنا في كل عمل. وهذه هي أهمية وصية حفظ السبت، نعمل 6 أيام واليوم السابع هو لله لنذكر أبديتنا ونرتاح في علاقتنا بالله. الإنسان جسد وروح، فإن ظن أنه روح بلا جسد وتكاسل ولم يعمل وجلس منتظرا أن الكنيسة تعوله، يقول له سليمان "في كل تعب منفعة" كما قالها في سفر الأمثال. وفي هذا يقول بولس الرسول "إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضا" (2تس3: 10). وإذا ظن الإنسان أنه جسد بلا روح يقول له سليمان ما الفائدة للإنسان من كل تعبه ، فهناك أبدية تنتظرك ، ماذا أعددت لها. وأيضًا فالجسد يشبع بالمادة، أما الروح فلن تشبع سوى بعلاقتها بالله الذي خلقها، وكل شهوات الدنيا لن تشبع الروح بدون الله، ويظل الإنسان في حالة جوع حقيقي مهما إمتلك إن كان بعيدا عن الله.

 

الآيات (4-11): "دَوْرٌ يَمْضِي وَدَوْرٌ يَجِيءُ، وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. وَالشَّمْسُ تُشْرِقُ، وَالشَّمْسُ تَغْرُبُ، وَتُسْرِعُ إِلَى مَوْضِعِهَا حَيْثُ تُشْرِقُ. اَلرِّيحُ تَذْهَبُ إِلَى الْجَنُوبِ، وَتَدُورُ إِلَى الشَّمَالِ. تَذْهَبُ دَائِرَةً دَوَرَانًا، وَإِلَى مَدَارَاتِهَا تَرْجعُ الرِّيحُ. كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً. كُلُّ الْكَلاَمِ يَقْصُرُ. لاَ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يُخْبِرَ بِالْكُلِّ. الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ. مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ. إِنْ وُجِدَ شَيْءٌ يُقَالُ عَنْهُ: «انْظُرْ. هذَا جَدِيدٌ!» فَهُوَ مُنْذُ زَمَانٍ كَانَ فِي الدُّهُورِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَنَا. لَيْسَ ذِكْرٌ لِلأَوَّلِينَ. وَالآخِرُونَ أَيْضًا الَّذِينَ سَيَكُونُونَ، لاَ يَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ عِنْدَ الَّذِينَ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ."

يقدم الجامعة أمثلة واقعية من الطبيعة تؤكد أن الكل باطل والأمثلة:-

(1) قصر الحياة الزمنية فالشمس تشرق ثم تغرب بسرعة. (2) الحياة الزمنية طبيعتها متغيرة فالريح تأتي مرة من الشمال ومرة من الجنوب. (3) هي تعجز عن إشباع القلب كما أن البحر لا يمتلئ بالرغم من كل الأنهار التي تصب فيه. (4) لا جديد بحق في الحياة. (5) كل ما يناله الإنسان حتى من كرامة أو شهرة يمحوه الزمن بالنسيان ومن هو مشهور اليوم سينساه الجميع غدا.

ففي آية (4) نرى أن فترة استمتاعنا بالأمور الأرضية قصيرة للغاية، فجيل يعيش ثم ينتهي ليأتي محله جيل آخر، نحن بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل. ولاحظ قوله إلى الأبد = أي لمدة طويلة تستمر حتى اليوم الذي ستحترق فيه الأرض، ونلاحظ تفاهة الإنسان، فهو يذهب سريعًا بينما الأرض المادية قائمة لا تذهب. وفي الآيات (5-7): نجد هناك دورات للطبيعة فالشمس تشرق وتغرب ثم تعود لتشرق والريح تأتي ثم تختفي ثم تعود وهكذا، هي تختفي من مكان لتظهر في مكان آخر، تتحرك في مدارات معينة، وأيضًا المياه تتحرك إذ تتبخر فتصير سُحبًا ثم مطرًا فأنهارًا وتعود للبحار لتتبخر من جديد. فالظروف الطبيعية حولنا تتغير، ولكن بينما الظواهر الطبيعية تختفي لتأتي وتظهر ثانية فالإنسان يختفي بالموت ولا يظهر ثانية. فحالته أسوأ وأضعف من الطبيعة (هذا من ناحية الصورة الراهنة. ولكن ربما تحمل هذه الصورة رجاءً في القيامة، فإذ يختفي الإنسان بالموت فإنه سيظهر ثانية بعد القيامة، ولكن هذا الإيمان لم يكن واضحًا تمام الوضوح في العهد القديم).

ونفهم أيضًا من صورة التغير في العالم حولنا واضطرابه، أنه عالم مضطرب فهل نتمسك به؟ ولأن الإنسان يذهب ولا يعود احتجنا لمخلص ليعطينا حياة أبدية.

وفي آية (8) كل الكلام يقصر= وفي ترجمة أخرى "جميع الأشياء مرهقة" أي كل شيء متعب ويقصر عن إشباع القلب. فالنفس المخلوقة على صورة الله لن تشبع بأمور زمنية فانية بل مملوءة تعبًا . ولأن الإنسان مخلوق على صورة الله اللانهائي فالإنسان لن يشبعه العالم المحدود، هو لن يشبعه سوى الله اللانهائي. واللانهائية تُشَبَّه بالدائرة لأن الدائرة لا بداية لها ولا نهاية لها، ومهما وضعت من أشكال داخل الدائرة فهي لن تمتلئ، لن يملأ الدائرة سوى دائرة. لا يستطيع الإنسان أن يخبر بالكل= في ترجمة أخرى "لا يستطيع إنسان أن يعبر عنها" فما يدركه الإنسان هو بعض القشور السطحية للحقائق. والمفهوم أن سليمان يشعر بكل أحاسيس الناس وتعبهم وآلامهم وعدم شبعهم ومعاناتهم، فالعالم حولهم يتغير ويعود، لكن الانسان يموت ولا يعود، وهذا شيء مؤلم، بل هم في تعب لا يمكن التعبير عنه. العين لا تشبع من النظر= فكل ما في العالم لا يعطي شبعًا، الحواس لا تشبع، فإذا كانت الحواس لا تشبع من العالم، فكيف يشبع العالم الحواس الداخلية والحياة الداخلية هذه التي لا يشبعها سوى الله لأنها مخلوقة على صورة الله . (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). بل الحواس تمل بعد وقت مما تراه، النفس تطلب الآن شيئًا جديدًا وتشتهيه وبعد أن تحصل عليه تمل منه ثم تطلب الجديد ثم تمل. والعكس في السماء، فسيكون شعورنا بأن كل شيء جديد، أي نفرح به ولا نمل منه، وهذا معنى أنه سيكون لنا ترنيمة جديدة (رؤ3:14)، أي هي دائمًا جديدة ودائمًا مشبعة (راجع مز3:40 + إش19:43 + 2كو17:5 + رؤ5:21). الإنسان يسعى وراء الشبع من الأمور المادية ولكن الشبع لن نجده في هذا العالم. وفي الآيات (9، 10) نرى أن ظروف الإنسان الخارجية وإمكانياته تتغير ولكن طبيعته وأحاسيسه ودوافعه وغرائزه تبقَى كما هي لا تتغير، كل ما هو تحت الشمس لا يشبعه ولا يجد فيه جديدًا، يسمع عن شيء جديد فيشتهيه ويفرح به ثم يمل منه، كالطفل يشتهي لعبة جديدة يفرح بها لدقائق ثم يلقيها ويمل منها. وكثيرًا ما يشعر الإنسان بالحاجة إلى التجديد، فيطلب ما هو جديد لمجرد أنه جديد ويرفض ما هو قديم لمجرد قدمه، فيجري وراء الجديد كالموديلات الجديدة والتعبيرات الجديدة ولكنه لا يحس بالاكتفاء وسريعًا ما يعود للملل. أما النفس التي ترتبط بالسيد المسيح عريسًا لها [1] تشبع به وتجده دائما جديدا ولا يمل الإنسان من عشرته. وهذا أحد معاني أن المسيح سيكون له "اسم جديد" (رؤ3: 12). [2] يقودها الروح القدس إلى التجديد المستمر في الفكر الداخلي، فلا تشعر بملل أو بضجر بل تكتشف التعزيات الإلهية المشبعة للنفس وتدرك أن ما كان يشغلها سابقا من ملذات هذا العالم إنما هو باطل وقبض الريح.

لذلك يطلب بولس الرسول " تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم "... (رو2:12). ومثل هذا يحيا متهللًا بالروح كما في السماء. ومثل هذه النفس لا تمسها الشيخوخة.

وفي (11) نرى كيف ينسى العالم الأولين ونحن سوف تنسانا الأجيال القادمة، فماذا ينتفع الإنسان لو ركز اهتمامه على جذب أنظار الناس.

عموما فإن فكرة سليمان انه لا شيء جديد هي حقيقة فإن الانسان لا يخلق شيئًا جديدًا بل يكتشف ما سبق الله وخلقه، الإنسان يكتشف القوي التي خلقها الله في الطبيعة.

 

الآيات (12-18): "أَنَا الْجَامِعَةُ كُنْتُ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ بِالْحِكْمَةِ عَنْ كُلِّ مَا عُمِلَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ. هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ. رَأَيْتُ كُلَّ الأَعْمَالِ الَّتِي عُمِلَتْ تَحْتَ الشَّمْسِ فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. اَلأَعْوَجُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَوَّمَ، وَالنَّقْصُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْبَرَ. أَنَا نَاجَيْتُ قَلْبِي قَائِلًا: «هَا أَنَا قَدْ عَظُمْتُ وَازْدَدْتُ حِكْمَةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ قَبْلِي عَلَى أُورُشَلِيمَ، وَقَدْ رَأَى قَلْبِي كَثِيرًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ». وَوَجَّهْتُ قَلْبِي لِمَعْرِفَةِ الْحِكْمَةِ وَلِمَعْرِفَةِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ، فَعَرَفْتُ أَنَّ هذَا أَيْضًا قَبْضُ الرِّيحِ. لأَنَّ فِي كَثْرَةِ الْحِكْمَةِ كَثْرَةُ الْغَمِّ، وَالَّذِي يَزِيدُ عِلْمًا يَزِيدُ حُزْنًا."

هناك طريقتين للتفكير [1] أن يفكر الإنسان بعقله معتمدا على حكمته، وهذه الطريقة لها عيوبها، فمهما كانت حكمة الإنسان فهي محدودة، لذلك هذه الطريقة تقود لاستنتاجات خاطئة بل تقود لليأس. [2] أن يفكر الإنسان وهو يصلي فيشرك الله معه في التفكير، والله غير محدود وقادر أن يرشد الإنسان لأشياء لا يمكن له أن يدركها وحده، بل هو يعطي الإنسان عزاء وراحة حتى لو لم تُحَل المشكلة التي يصلي من أجلها، لكن الله سيعطيه مشاعر سلام وتسليم أنه سوف يحل له المشكلة.

هنا نجد سليمان يقدم برهانين آخرين لإثبات أن الكل باطل:-

[1] اختباره الشخصي [2] أشياء يتوهم الناس أنها فيها سعادة للبشر والعكس صحيح مثل المعرفة. وفي (12) كنت ملكًا= الفعل في العبرية يعني كنت ولا أزال ملكًا، وهو استخدم هذا الأسلوب للتواضع بمعنى أنا غير مستحق لهذا المركز فبعد سقوطي أنا الآن لست سوى واعظ يحذركم من سلوك نفس الطريق الذي سلكته. فمع كوني جامعة أي جامع كل الحكمة وكوني ملكًا على أورشليم فأنا سقطت وتعذَّبت. وما زاد حزني أنني في وقت سقوطي كنت ملكًا على شعب الله في مدينة الله.

وفي (13) وجهت قلبي للسؤال= هذا سبب حيرة سليمان في هذا السفر، فالله أعطاه حكمة، هذا حقيقي، ولكنه عوضًا عن أن يرفع قلبه لله ويطلب أن يكشف له الله عن إجابات أسئلته [ومَنْ يعوزه حكمة فليسأل..] (يع1: 5)، أجهد نفسه وأجهد عقله بالانفصال عن الله، هو حاول بأمانة أن يعرف ويدرس وهو مشهودًا له في الكتاب بنجاحه في علوم الدنيا، ولكنه عوضًا عن الدخول في حوار مع الله واهب الحكمة السماوية استغل حكمته الدنيوية وعلمه في حل مشكلات لا يقوى عقل الإنسان مهما ازدادت معرفته على الغوص فيها، بل كلما تعمق فيها اكتشف ضعفه وعجزه وازداد غمه، أما حكمة الله فهي تكشف عن ضعفاتنا، لكنها تهبنا رجاءً فلا نيأس ولا نغتم. ولكن سليمان ضل سبيله بسبب خطيته، فالخطية تمنع عني حكمة الله فلا شركة للنور مع الظلمة. (وهو في تعبه قال "هُوَ عَنَاءٌ رَدِيءٌ جَعَلَهَا اللهُ لِبَنِي الْبَشَرِ لِيَعْنُوا فِيهِ" = هو رأى آلام الإنسان ولحكمته البشرية العجيبة رأى ما لا يراه الإنسان العادي فإكتأب وظن أن الله خلق الإنسان ليتألم عقليًا وجسديًا ونفسيًا. والواقع أن الله لم يخلقنا لنعيش في عالم الشقاء والعناء، والألم كان نتيجة لخطية آدم، ويضاف لذلك إساءة استخدام العالم وهذا أفسد حياتنا، ولكن من يحيا لمجد الله ناظرًا للسماء حتى وإن وقعت عليه نفس الآلام فالله يعطيه سلامًا يفوق العقل (في 4: 7)، وتعزية وفرح لا ينزعه أحد، ولكن كيف يتعزى سليمان وهو يخطئ ويبخر لأوثان. وخطأ سليمان أنه جرَّب أن يحصل على التعزية من العالم (نساء وفراديس...) لذلك لم يتعزى. (ونسمع في القداس حولت لي العقوبة خلاصًا). ونحن نحيا الآن:- 1) لنتمم عملا خلقنا الله لنعمله (أف2: 10). 2) خلال فترة حياتنا على الأرض يتمم الله تنقيتنا ويعطينا عزاء لنحتمل آلام هذا العالم. 3) لنا رجاء في ختام هذه الحياة ان نذهب للراحة ثم المجد.

وفي (14) رأى سليمان عجز كل الأنشطة البشرية على الأرض وعقمها عن تقديم شبع حقيقي للنفس أو إصلاح وعلاج النفس داخليًا. ولكن الحزن داخله ليس راجعا فقط لألام هذا العالم بل لأن الخطية منعت عنه تعزيات الله.

وفي (15) الأعوج لا يمكن أن يقوَّم= هذا شعور مُرْ بالعجز عن الإصلاح، وهذا حقيقي، لكن المسيح جاء ليصلح ما عجزت البشرية عن حله وعن إصلاحه. لقد اكتشف سليمان هنا أن الإنسان أعوج وناقص بسبب خطيته، لن تكمله حكمة بشرية مهما سمت ولا معرفة مهما ازدادت. وفي (16، 17) نرى سليمان في حكمته البشرية التي ازدادت عن كل إنسان وأنه إنكب بجدية على الدراسة والقراءة لزيادة معرفته وحكمته وعلمه. ولكنه سعى إلى هذا بعيدًا عن الله فتعب.

وفي (18) وجد أنه في زيادة معرفته وحكمته ازداد غمًا. ومن المؤكد أن هذه الآية ليست دعوة للجهل. ولكن سليمان هنا يعلن أن الإنسان الذي يعلم أكثر يتألم أكثر ...فلماذا؟ *فكلما عرفنا عن الناس أكثر وعن آلامهم سنتألم + *وكلما عرفنا عن شرورهم سنتألم + *كلما عرفنا عن خداعاتهم سنتألم + *وكلما عرفنا حقيقة قلوبنا سنحتقر أنفسنا + *وكلما عرف الإنسان جهله السابق وخطاياه السابقة سيخجل من نفسه + *وكلما ازداد علمه اكتشف جهله السابق وأخطاء شبابه فيخجل من نفسه + *وكلما ازداد علمه ازداد احتياجه للمعرفة وتعطشه بالأكثر للمعرفة، وبعجزه عن المعرفة، وبأن كل ما يعرفه ما هو إلا قشور وهذا يعطيه شعورا بالنقص + *وكلما ازداد الإنسان عِلمًا ازداد إحساسًا بالعجز وقلة الحيلة أمام هذا الكم الهائل من المشكلات والآلام التي يعجز عن حلها بإمكانياته مهما ازدادت حكمته + *وكلما ازدادت حكمته سيقارن بينه وبين الجهلاء، وسيجد أن الموت سيأتي ويساوي بينهما ويقول.... ما الفائدة من كل معرفتي + *بل كلما زادت معرفتنا الروحية ازداد حزننا لعجزنا عن تحقيق المثاليات التي عرفناها + *بل حتى المعلومات الروحية لا تعطي فرحا إن لم يصاحبها عشرة حب مع الله ولكن إن إقتصرت على الجدال، يدخل الكبرياء وتضيع التعزيات ويزداد الغم + *كلما ازدادت المعرفة يجد الإنسان أن حجم المتغيرات في حياته ضخم جدًا، فكيف يتسنى له اتخاذ قرار سليم وسط هذه المتغيرات، بل يقف عاجزا أمام المستقبل فهذا ليس بيد إنسان، وهذا مما يزيد الغم ألا وهو عجز الإنسان عن اتخاذ قرار سليم.

عمومًا هو لا يهاجم الحكمة والعلم والمعرفة بل يعلن عن عجزهم عن تحقيق السعادة والفرح للبشر. والكتاب المقدس عمومًا لا يحرمنا من العلم، على ألا يحرمنا العلم من الإتكال على الله وعشرة الله التي تعطي سلامًا للنفس. والكتاب يقول " هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو4: 6). فالعالم العظيم أو الفيلسوف لن يكون سعيدًا إن لم يكن قديسًا. فمن له عِشْرَةْ وحياة مع الله، يعطيه الله سلامًا يفوق عقله المرهق المكدود من البحث والكد. وسيعطيه صبرًا على ما سيعرفه ويكتشفه من أحزان وسيعطيه رجاءً في أن الله ضابط الكل هو المسيطر على الأحداث المضطربة التي لا يستطيع هو أن يضبطها. فهناك فرق بين من يبحث ويعمل مستقلًا عن الله وبين من يعمل ويبحث في شركة مع الله. من يعمل بالانفصال عن الله مهما زادت حكمته فهو محدود، ولكن من يعمل في شركة مع الله ينطلق إلى اللامحدودية لذلك تصلي الكنيسة (إشترك يا رب مع عبيدك في كل عمل صالح) "أوشية المسافرين". ولأن سليمان اعتمد على حكمته، تألم وتعب وظل يجول باحثًا إلى أن إهتدى في نهاية السفر.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

← تفاسير أصحاحات جامعة: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12

 

الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Antonious-Fekry/23-Sefr-El-Gamaa/Tafseer-Sefr-El-Gam3a__01-Chapter-01.html

تقصير الرابط:
tak.la/z4v3bty