St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد القديم من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

1606- هل ظهر الله لأيوب في شكل إنسان أم ملاك؟ ولماذا استخف به وسأله أسئلة تعجيزية، وعوضًا عن إجابته على تساؤلاته، أخذ يحدثه عن قوته الخارقة وحكمته العالية وسيطرته على كل شيء؟ (أي 38-41)؟

 

     قال البعض أن أيوب لم يعرف الذي تحدَّث إليه من العاصفة، فيقول " جاك مايلز": "وأيوب لا ينادي الصوت القادم من العاصفة بِاسمه أبدًا، وفي كل خطاب يوجهه أحد أدنى اجتماعيًا إلى أحد ما آخر أرفع اجتماعيًا، فإن الأدنى هو المُلزَم بتهذيب كلامه المباشرة بكلمات التبجيل... وألقاب الشرف، فلا يقول " أجل " و"لا"، بل " أجل، سيدي " و"لا، سيدي"... مثل " يا رب، إن كنت قد وجدتُ حظوة في عينيك"... الصوت القادم من العاصفة يرفض أن يحدّد هويته"(1).

ويقول " ول ديورانت " عن نهاية مشكلة أيوب: "أيوب يحصل على كل شيء إلَّا جواب أسئلته، فالمشكلة تظل باقية، وسوف تكون لها آثار بعيدة في تفكير اليهود فيما بعد. ففي أيام دانيال... سكت اليهود عن هذه المشكلة، وعدوها من المشاكل التي شرحها بعبارات تدركها العقول في هذه الحياة الدنيوية، ولا يستطيع الإجابة عنها... إلَّا إذا آمن الإنسان بحياة بعد الممات، تُرفع فيها كل المظالم، وتُصحح كل الأخطاء، يُعاقب فيها المسيء ويُثاب المُحسن أجزل الثواب"(2).

وقال " جاك مايلز": "وهنا تكمن كل صعوبة هذه الخطب، فالرب لا يشير مطلقًا إلى أي شيء يخصه سوى قدرته، والحقيقة أنه مقطع مدهش... يضع عدالته صراحة ضمن قدرته إلى كنفها. القدرة تصنع الحق، هكذا يرعد الربُّ على أيوب، والرب لا يأخذ اعتراضات البائس المُعذَب على محمل الجد... يُقدِّم الربُ نفسه، بتهكم ساخر وتبجح مفرط بالشجاعة، كقوة لا تقاوم، ولا تحسب للأخلاق حسابًا. غير أن أيوب لم يضع أبدًا قدرة الرب موضع التساؤل، وعدالة الرب هي ما يطالب أيوب بتفسير أمرها... كان أيوب قد طالب مِرارًا بأن يجيب الله عن أسئلته المُتعلقة بالعدل. وها هو صاحب الصوت بدلًا من أن يحدد هويته... وبدلًا من أن يجيب على تلك الأسئلة، يحاول أن يضع الكرة في مرمى أيوب إياه بأن يجيب هو عن أسئلة لا تتعلق بالعدالة بل بالقدرة... فأيوب يتكلَّم بإسهاب عن العدالة ويطلب من الله أن يجيب. ويرفض الله ذلك، ويتكلَّم الله بإسهاب عن القدرة ويطلب من أيوب أن يجيب"(3).

     ويقول " م. ريجسكي": "في نص كتاب أيوب الذي وصلنا، ينتهي النقاش بين أيوب وأصدقائه بكلمات من قِبل المؤلف: "فَكَفَّ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ الثَّلاَثَةُ عَنْ مُجَاوَبَةِ أَيُّوبَ لِكَوْنِهِ بَارًّا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ" (أي 32: 1)، بمعنى أن الأرثوذكس لم يتمكنوا من إقناع أيوب. لكن على نحو مفاجئ يأتي الإله ذاته لمؤازرتهم ويتكلَّم من العاصفة بخطاب طويل ضد أيوب (الأصحاحات 38-41)، تتلخص فحواه في فكرة وحيدة المدلول: يهوه لا يبرر أبدًا سلوكه تجاه البشر ولا يفسر سيطرة الشر على العالم، بل هو -عوضًا عن ذلك- يمجد جبروته وحكمته بكلام كثير، ليبرهن أن الإنسان مقارنًا به صغير لحد وضعيف لحد وغير حكيم لحد أنه لا يملك حقًا في الحكم على أفعال الإله، ناهيك عن إدانته لها (أي 39: 32). وفقط بعد رؤيته للإله يعترف أيوب بهزيمته ويردّد كلمات التوبة: "قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ... بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (أي 42: 3-6)...

     وهكذا انتصر يهوه، لكنه حقًا انتصار القوة على الحق... إن هذا الكتاب الذي ألَّفه كاتب مجهول كان يجب أن يزرع في نفوس قارئيه بدور التشكّك وعدم الإيمان. وقد فهم ذلك، بالطبع، أنصار ديانة يهوه القدامى فلجأوا إلى الطريقة القديمة المجرَّبة، فعرَّضوا هذا العمل الأدبي لـ"التشذيب" الضروري"(4).

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

St-Takla.org Image: "Then the Lord answered Job out of the whirlwind" (Job 38: 1) - Unknown illustrator. صورة في موقع الأنبا تكلا: "فأجاب الرب أيوب من العاصفة" (أيوب 38: 1) - لفنان غير معروف.

St-Takla.org Image: "Then the Lord answered Job out of the whirlwind" (Job 38: 1) - Unknown illustrator.

صورة في موقع الأنبا تكلا: "فأجاب الرب أيوب من العاصفة" (أيوب 38: 1) - لفنان غير معروف.

ج: 1- لم يذكر الكتاب المُقدَّس الهيئة التي اتخذها الله وهو يكلِّم أيوب، وهل اتخذ شكل إنسان كما استضافه إبراهيم وتكلَّم معه، أو أنه اتخذ شكل ملاك كما التقى به جدعون وحصل على الوعود منه، ولذلك يُرجَّح أن أيوب سمع فقط صوت الله من العاصفة دون أن يرى وجهه، وكان حديث أليهو مقدمة هامة وضرورية لحديث الرب مع أيوب.

     ويقول " لويس صليب": "بدأ أليهو خطابه وقورًا وهادئًا، أدار مناقشته وأدلىَ بأسانيده بطريقة متقنة، وبسلطان، ليقنع الذهن والضمير، وتحسب من الصمت الذي راق على أيوب رغم تكرار الدعوة إليه أن يجاوب، إن الحجج التي عرضها أليهو لم تفشل فيما أُعدَّت له. ثم يستطرد أليهو فينتقل من الأسلوب التعليمي الإرشادي إلى الأسلوب الوصفي، كاشفًا عن حكمة الله وعظمته كما تبدوان في خليقته الضخمة... غير أن ومضة ذهبية تمرق من خلال سُحُب الشمال العاصفة، وفي بعض كلمات في إطار من الرهبة تُذكّر أيوب بصلاح الله وجلاله ويختم أليهو خطابه، ومن خلال العاصفة التي قرأنا وصفها توًا، ينطلق صوت يهوه داويًا رهيبًا... إنما نحن في حضرة الرب نفسه... ذلك الصوت -لا ننسى- جعل أبوينا المذنبين يختبئان خلف أشجار الجنة. وأمر موسى أن يخلع حذاءه من رجليه عند العليقة المتوقّدة، وهو بعينه الذي فيما بعد جعله يصرخ: "أنا مرتعب ومرتعد " وسط أهوال سيناء، بينما تباعد الشعب إلى مسافة قصيَّة"(5).

     ولم يشك أيوب ولا أي قارئ أمين في أن هذا الصوت هو صوت الله، لأنه من المستحيل أن ينطبق ما جاء في الخطابين إلَّا على الله خالق الكل وضابط الكل، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وأيضًا أوضح الكتاب بلا أدنى لبث صوت المتكلِّم عندما قال صراحة: "فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَة وَقَالَ" (أي 38: 1)... " فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ فَقَالَ" (أي 40: 1)، وأيضًا أوضح الكتاب نهارًا جهارًا بأن أيوب كان يُدرِك تمامًا من يتكلَّم معه خلال العاصفة: "فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ وَقَالَ" (أي 40: 3)... " فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ فَقَالَ" (أي 42: 1).

 

2- بعد أن عجز الأصدقاء وأيوب في حل مشكلة تألُّم الإنسان البار، تنازل الله وتكلَّم مع أيوب من خلال العاصفة، هكذا كلَّم الله موسى من وسط الرعود والبروق والسحاب الثقيل وصوت البوق والدخان والنار، وقال ناحوم النبي: "الرَّبُّ فِي الزَّوْبَعَةِ، وَفِي الْعَاصِفِ طَرِيقُهُ، وَالسَّحَابُ غُبَارُ رِجْلَيْهِ" (نا 1: 3)، وسأل الرب أيوب أسئلة هذه عددها، وفشل أيوب في الإجابة على أي منها، فإن كنتَ يا أيوب تجهل أمور هذا العالم المادي، فما بالك بالأمور الروحية والأسرار الإلهيَّة التي لا تُدرَك؟!، وقاد الله أيوب لتسليم أموره للمشيئة الإلهيَّة من خلال حديثين:

الحديث الأول (ص 38، 39): اصطحب فيه الله أيوب في جولة رائعة ورحلة عجائبية حول الطبيعة والمخلوقات، واضعًا إياه أمام القدرة الإلهيَّة والحكمة التي تفوق الإدراك.

الحديث الثاني (ص 40، 41): وتكلَّم فيه مع أيوب عن حيوانين أولهما: بهيموث (فرس البحر) فبالرغم من ضخامته وقوة بنيته وشدته فإن الإنسان استطاع أن يخضعه، وثانيهما: لوياثان (التمساح) الذي عجز الإنسان عن ترويضه.

 

وفي الحديث الأول تكلَّم الله مع أيوب عن:

1- الأرض (أي 38: 4-7).

2- البحر (أي 38: 8-11).

3- الصُّبح والفجر (أي 38: 12-15).

4- العالم السفلي (أي 38: 16-18).

5- النور والظلمة (أي 38: 19-21، 24).

6- الثَّلج والبَرَدِ (أي 38: 22-23).

7- الصَّواعق (أي 38: 25).

8- المطر (أي 38: 26-30).

9- الفَلَك والأبراج (أي 38: 31-33).

10- السُّحب والبروق (أي 38: 34-38).

11- اللَّبؤة (أي 38: 39، 40).

12- الغراب (أي 38: 41).

13- الوعول والأيائل (أي 39: 1-4).

14- الحمار الوحشي (أي 39: 5-8).

15- الثور الوحشي (أي 39: 9-12).

16- النعامة (أي 39: 13-18).

17- الفرس (أي 39: 19-25).

18- العقاب (أي 39: 26).

19- النسر (أي 39: 27، 30).

 

3- يقول " ديفيد أتكنسون": "ويبدو أن الله يقول لأيوب: دعني أُثير دهشتك بتراكيب وروائع مذهلة من أساسات الأرض (38: 4) حيثما ترنَّمت كواكب الصبح، في بدء الخليقة وهتف جميع بني الله أي الملائكة، هناك في المجلس الإلهي، وهم يتأملون روائع الله في خليقته (38: 7). هذا التسبيح البهيج للخالق في خليقته، الذي كان منذ القديم...

     تأمل البحر، وقفته الهائلة التي لا تتعدى حدودها (38: 8-11). تأمل السموات والأعماق والنور والظلمة (38: 21، 24)... وماذا عن الأمطار (38: 25-30)، ثم ارفع عينيك إلى السموات إلى السُّحب، إلى الجبار والثُّريا ومعظم الأجرام، إلى
البرق والصواعق (38: 31-38)! هل ترى هذه كلها بعينيك المجرَّدة؟! تعال، وتجوَّل بين الخليقة... انظر وتعجب واستمتع بأعمال الله وعجائبه وتفكَّر في الهدف من هذا كله..!!

     ويستطرد الله، ولسان حاله يقول لأيوب: "هلم يا أيوب أيضًا وتأمل عظائم الله في مملكة الحيوان، هل يمكنك أن تصطاد فريسة لتطعم أشبال الأسد الجائعة (38: 39)... ومن ذا الذي يُطعم صغار الغربان، إذ تنعب في أوكارها (38: 41)... ومن الذي يُعطي للحيوان قوة للولادة؟! ومن يرعاه؟! ومن يرعى الأيائل (39: 1) والحمار الوحشي (39: 5) والثور الوحشي (39: 9)؟!

     ثم تعالَ وتأمل النعامة (39: 13) هل يُفهم كيف ترعى بيضها؟ حينما تدفنه في الرمال وتمضي، دون تفكير بأن قدم أحد قد تطأه وتحطمه (39: 17). أو لم يعطها الله هذه المَلَكَة؟! وحتى تلك المخلوقات التي لا حظ لها من الذكاء، هي جزء من عمل الله المدهش في الخليقة. بيد أن النعامة ذاتها، قد تكون صورة تشبيهية عن أيوب في بعض التصرفات. فهي خليط بين التناقضات (39: 13-17)، فهي تجمع بين القوة والحماقة، ومع أنها لا تتمتع بالفهم الجيد، إلاَّ أنها ذات قيمة في خلائق الله.

     وماذا عن حصان الحرب. إن الله يقدمه في تصوير شعري رائع جميل (39: 19-25)، فهو في افتخار يقف، ثم ينفخ بأنفه وهو يدق الأرض بحافريه، وحينما يسمع صوت البوق، يندفع إلى الحرب غير خائف من السهام الطائرة حوله، وماذا عن النسر أيضًا (39: 26-27)... هذه كلمات عن جوانب من خليقة الله العظيمة التي تُعبِّر عن حكمته...

هلُمَّ يا أيوب وانظر معي. هكذا يقول الله من خلال كلماته لعبده. تعالَ، وتمتع بكل مظاهر الخليقة العظيمة. لأنك لا تستطيع أن تسيطر على واحدة منها، ومع ذلك، فكلها تحت سلطاني، وبقوتي تحيا، يقول السيد الرب"(6).

 

4- لقد عامل الله أيوب كرجل، وحفظ له كرامته، ورفع من مستواه إذ أقامه محاورًا له، فقال له: "اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي" (أي 38: 3)... "الآنَ شُدَّ حَقْوَيْكَ كَرَجُل. أَسْأَلُكَ فَتُعْلِمُنِي" (أي 40: 7). ويقول " جان ليفيك": " إن هذا الحوار الذي يشرع الربُ فيه، يريده أن يكون محييًا لشخصية محاوره (أيوب) إلى أقصى حد، فهو لذلك يحرص على أقناع أيوب بأنه حفظ، في نظره الإلهي إليه، كل رجولته... يُخالف الله عما زعمه أيوب، فلا يسعى إلى انتقاص الإنسان قبل التلاقي، لأن ما يمجده هو التواضع لا الإذلال. أجل، سوف تُرَد مزاعم أيوب، وسيصير مسئولًا بعد أن كان سائلًا، ولكن الرب يُظهر الأمانة التي يحفظها له، والكرامة التي يعترف له بها، إذ يقيمه أمامه محاورًا له. إنَّ تواضع أيوب، في نظر الله، يجب أن يظهر في جو من العزة، وسوف يقوم الحوار على المستوى الأبعد غورًا، مستوى حريتين تسعى الواحدة إلى الأخرى، وتعترف بها، وتؤكد الواحدة الأخرى... يكرر الله القول " أخبرني " الذي كان قذف به أيوب مرتين في وجهه (أي 10: 2، 13: 23)... (لقد تصوَّر أيوب أن) الله قاضِ، الله معادٍ، الله قاسٍ. تلك تخيلات اصطنعها أيوب لكي يجعل غمَّه موضوعيًا. لن يجيب الرب على هذا المستوى من الخيال، بل على المستوى الواقعي... هكذا يُقدّم الرب نفسه على أنه إله النظام والتوازن والاستقرار للكون. يشدُّ عقد الثُّريا وحِبال الجوزاء (أي 38: 31) لكي يبقى رسم الكواكب بلا تغيير...  

إن الله هذا الواسع العِلم، الذي ينظر إلى الأعماق، ويرى من بُعد، يجول مرتاحًا في المجالات المجهولة التي تؤلف للإنسان ميدان الجهل... فهو يحصي الغيوم بحكمته، قبل أن يميلها مثل زقاق لئلا يُغرِق البلد (أي 38: 37) وهو يعد الأشهر لولادة الوعول (أي 39: 1) ويضع الحكمة في أبي المنجل ليُنبئ بفيضانات النيل (أي 38: 36) ويهب للفرس غريزة حب القتال (أي 39: 19-25)، وينبه البازي بأنه حان وقت العودة مع ريح الجنوب (أي 39: 26). حتى الخلائق الجامدة لا تخلو من اهتمام هذه العناية الدقيقة، فتوصف نشأتها هنا وهناك على نحو الولادات الحيوانية: فللمطر أب، وكذلك لقطرات الندى (أي 38: 28)، وللصقيع والجَمد بطن الأم (أي 38: 29) وحين يندفع البحر خارجًا من الرحم (رحم الأرض) فالرب يسرع إلى أن يقمطه بالغمام (38: 8)... ولكن الله الذي يتراءى لأيوب يحرص خصوصًا على تأكيد حريته المطلقة...

لا ينبغي الله أن يبعث في أيوب مقدرة جديدة على التعجب فحسب، بل يريد أن يقيمه تجاه حدود ثلاثة...

(1)     الحد من الزمان: لم يشهد أيوب الطقس الأول (أي 38: 4)، لم يستطع أن ينضم إلى جوقة الكوكب...

(2)  حدود علم أيوب:... لا يخطئ أيوب حقًا بالفطنة التي تفهم وتميز. إنها تنقصه بمعنى أن العلة الأخيرة للأشياء تبقى مخفية عليه (أي 38: 4، 39: 26)... ويرى أيوب نفسه مضطرًا، آخر الأمر، إلى التسليم بأن مقاييس الجمال، والحكمة، والنافع، ليست في حوزة الإنسان...

(3)  حدود قدرة أيوب: كل تلميح جديد إلى قوة الخالق ومهارته يبرز حتمًا عجز أيوب. أربع عشر مرة يَرد السؤال: "من؟ " من حدَّد... من سجن... من وُلِد..؟ إلخ... فيكون الجواب من غير تبديل " الله". فيرى أيوب رويدًا رويدًا، ومن نفي إلى نفي، ميدان قدرته وحقوقه تتقلص. العالم له، ولكن آخر يعمل فيه، وآخر يملكه..."(7).

 

5- لم يجب الله على أسئلة أيوب، لكنه طرح عليه أسئلة عديدة بلاغية تكشف عن الحكمة الإلهيَّة وهو يقول له: "اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي" (أي 38: 3)، فظهر الله كمعلم عظيم يتعامل مع طفل صغير، وهو يريد أن يثير أفكاره ومكامن المعرفة لديه، وليس كما قال بعض النُقَّاد بأن الله كان يستعرض عضلاته من خلال أسئلة تعجيزية لأيوب مستخفًا ومستهزئًا به، فالله العالِم بكل شيء يعرف جيدًا كيف يتحدَّث مع أيوب ويريحه، حتى وإن لم يجبه على تساؤلاته، لكنه انتشله من الظلمة التي غشت عقله، وأعاد له الثقة المفقودة في خالقه، وأفاض عليه بسلامه العجيب، فاطمأن قلب أيوب ووجدانه استراح، فلم يعد محتاجًا لإجابة عن أي تساؤلات سابقة، أنه في يد الإله القدير الحكيم وحده، فما الداعي أن يزعج نفسه بأسئلة، بينما هو الآن في عمق السلام مع الله ومع نفسه ومع الآخرين..؟! عجبًا للنُقَّاد الذين يريدون أن يعلّموا خالقهم كيف يتكلَّم؟ وكيف يتعامل مع مشكلة أيوب؟ وماذا يجب أن يقول، وماذا يجب أن لا يقول؟ ولماذا لم يجب أيوب عن العدالة الإلهيَّة؟ ولماذا ركز حديثه عن القدرة الإلهيَّة..؟ إلخ.، وكأن هؤلاء النُقَّاد يفهمون ويدركون نفسية أيوب ويعرفون دواخله أكثر من الذي جبله من البطن؟!!

 

6- أشد ما كان يزعج أيوب ويسبب له قلقًا أنه شكَّ بأن الله غاضب عليه، ولا يعرف لماذا؟!! فعندما تحدَّث الله له حُلَّت على الفور مشكلة أيوب الدفينة... تلاشت مخاوفه وحلَّ السلام والأمان والطمأنينة في قلبه، فالله ليس بغاضب عليه كما زعم أصحابه ذلك، بل أنه لم يهمله ولم يتركه، فخرج أيوب من قوقعته حول نفسه، وبعد أن أضنى نفسه بالبحث عن الله، فهوذا الآن يقف في حضرته، وبعدما اشتهى كثيرًا المثول أمامه هوذا الآن يتحدَّث إليه، فأسلم نفسه بالكلية له... أمَّا الناقد فأنه يريد أن يملي إرادته على الله، ويعلمه ماذا ينبغي أن يفعله، وماذا ينبغي ألَّا يفعله!!

إذًا الطريقة التي استخدمها الله مع أيوب نجحت نجاحًا باهرًا، وأعادت لأيوب الحياة والبسمة التي فقدها والفرحة التي تغرَّبت عنه، وكم بلغت سعادته عندما تأكد أنه موضع اهتمام ورعاية وعناية الله؟! وكم كانت متعته وهو يجوب السماء والبحار والبراري والقيافي والوديان في رحلة عجائبية مع الخالق العظيم؟! هذا أخرجه من جموده فبدأ يشارك الطبيعة تشكُّراتها وتسبيحاتها للخالق... حقًا لم يكن أيوب في حاجة إلى من يضيف لأحماله أثقالًا عن طريق طرح عظات وتعاليم عقلانية جافة، إنما كان في حاجة ماسة لتلك اللمسة الحانية الأبوية التي مسحت عنه الآلام والأحزان والضيقات التي جاز فيها. لقد شُفيت جراحاته النفسية الدفينة، ولا سيما عندما شهد الرب له قائلًا: "لأَلِيفَازَ التَّيْمَانِيِّ: قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ" (أي 42: 7).

 

7- جاء في هامش " الكتاب المقدَّس الدراسي": "وفي النهاية يتم إسكات صوت الشيطان، وصوت أصدقاء أيوب وكذلك أيوب نفسه، إلَّا أن الله لا يصمت، وحين يتحدَّث فهو يتحدَّث لأيوب التقي، ويأتي به إلى الصمت النادم على الكلمات المتسرعة في أيام المعاناة، وإلى صمت الاتكال الواثق في سُبل الله (38: 1-42: 6)... والأكثر من ذلك أنه الله، كصديق سماوي لأيوب، يستمع لصلاة أيوب من أجل أصحابه (42: 8-10)، ويرد لأيوب حالته المباركة (42: 7-10). باختصار يمكن أن نقول أن الكلمة الرعوية للمتألمين الأتقياء هو أن الله يُقدّر برهم أكثر من أي شيء آخر"(8).

كما جاء أيضًا في " الكتاب المقدَّس الدراسي": "قال أيوب فليجبني القدير (أي 31: 35). والآن يتحدَّث الله لأيوب. ولكن ليس ليعطه إعلان براءة السلوك الذي كان أيوب يريده. فمن داخل العاصفة الرعدية المرهبة يُذكّر الله أيوب بأن الحكمة التي توجه طرق الخالق أعلى من أن يستوعبها فهم البشر، فحكمة البشر التي تُعطى من الله يجب ألَّا تفترض يومًا أنها يمكن أن تشابه حكمة الله أو تقاربها... يعلن الله أن شكوى أيوب وغضبه عليه ليس لهما ما يبررهما، وأنهما ينبعان من فهمه المحدود للحياة... الشكل الذي يستخدمه الله في إجابته لأيوب هو إمطاره بالأسئلة التي يجب أن يعلن أيوب جهله التام بإجاباتها. لا يقول الله أي شيء عن معاناة أيوب ولا يخاطب مشكلته في فهم العدالة الإلهيَّة. ولا يحصل أيوب على صحيفة اتَّهام ولا على إعلان براءة. ولكن المهم هو أن الله لا يوبخه ولا يدينه، الأمر الذي كان لا بد أن يحدث إن صح كلام المشيرين. فالمضمون العام يبرئ أيوب ولاحقًا يتم تثبيت هذه البراءة (انظر أي 42: 7-9...) نجحت المحادثات الإلهيَّة في قيادة أيوب للإيمان الكامل بحكمة وصلاح الله دون أن ينال إجابة مباشرة على تساؤلاته"(9).

 

8- يقول " قداسة المتنيح البابا شنودة الثالث": "الله الذي بدأ بتجريد أيوب من المال والصحة واحترام الناس، تدخل أخيرًا لكي يجرده من العَظَمة والبر الذاتي. لكي ينقيه ويطهره ويعيد إليه كماله، من جهة. ولكي يرد سبيه، ويُنهي هذه التجربة المُرّة لصالحه. وأيضًا ليهبه حياة بارة سعيدة مؤسَّسة على انسحاق القلب. وهكذا بعد أن انتهى أليهو بن برخئيل البوزي من إعداد الطريق قدامه، كرسالة يوحنا المعمدان في أن يهيئ للرب شعبًا مستعدًا (فيما بعد) (لو 1: 17)... أخيرًا تكلَّم الرب من العاصفة ليرد أيوب إلى طقسه.

بدأ الله بإشعار أيوب بضعفه وجهله، وظلمه للتدبير الإلهي، فقال " مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟!" (أي 38: 2)... وظل الله يسأل أيوب أسئلة في الخليقة حتى أعجزه، وحتى قال أيوب في انسحاق: "هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟! وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي. مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلاَ أُجِيبُ، وَمَرَّتَيْنِ فَلاَ أَزِيدُ" (أي 40: 4، 5).

نجح الله في خطته، وأوصل أيوب إلى انسحاق القلب من الداخل. وبهذا كانت التجربة قد وصلت إلى هدفها الروحي، فانتهت مدتها. وهكذا أجاب أيوب الرب فقال: "قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ" (أي 42: 2).

" وَلكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ. بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا " عبارة " نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ " اعترف فيها أيوب بأخطائه في كل ما قاله لأصحابه، وما قاله لله، واعتبر أنها خطية جهل... وعبارة " عَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا " التي قالها في انسحاقه، لعلها تعني أيضًا عجائب الرب في مقاصده الإلهيَّة، وسماحه بهذه التجربة لخيره وتنقيته ومكافأته... عبارة " عَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا " تُقدِّم لنا مبدأ روحيًا هو:

هناك أمور في حكمة الله، علينا أن نقبلها، وإن كنا لا نعرفها"(10).

 

9- واضح في التراث الإسلامي أن الله سأل أيوب أسئلة عديدة ليكشف له عن عظم قدرته، فيقول " الثعلبي"(12) أن الله سأل أيوب: "أين كنتَ مني يوم خلقتُ الأرض فوضعتها على أساسها، هل علمتَ بأي مقدار قدرتها؟ أم كنتَ معي تمر بأطرافها أم تعلم ما بعد زواياها، أم على أي شيء وُضعت أكتافها..؟ أين كنتَ مني يوم رفعتُ السماء سقفًا في الهواء لا معاليق تمسكها ولا تحملها دعائم من تحتها؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري وتسيَّر تخومها، أم هل بأمركَ يختلف ليلها ونهارها؟ أين كنت مني يوم سخرتُ البحار وأنبعتُ الأنهار، أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدتها؟ أين أنت مني يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال، هل لك أن تطيق حملها أم كنتَ تدري كم مثقال ما فيها؟ أين الماء الذي أنزلته من السماء؟ هل تدري كم بلدة أهلكتها وكم من قطرة أحصيتها وقسَّمتُ الأرزاق، أم قدرتك تثير السحاب وتنثر الماء؟ هل تدري ما هي أصوات الرعد أم من أي شيء لهب البرق؟ وهل رأيتَ عمق البحر أم هل تدري ما بعد الهواء؟ أم هل تدري أين خزانة النهار بالليل وأين طريق النور وبأي لغة تتكلَّم الأشجار؟ أين خزانة الريح وأين جبال البَرد..؟ ومن قسم للأُسد أرزاقها وعرَّف الطير معاشها وعطَّفها على أفراخها؟ ومن أعتق الوحوش من الخدمة وجعل مساكنها البرية لا تأنس بالأصوات ولا تهاب السلاطين..؟ أم بحكمتك يبصر العقاب الصيد البعيد واضحًا في أماكن الفلا؟ أي أنتَ يوم خلقتُ البهموت مكانه في متقطع التراب واللوتيا... وعروق أفخاذها كأنها عُمد النحاس، أأنت ملأت جلودهما لحمًا أم أنت ملأت رؤوسهما دماغًا..؟ أي أنتَ يوم خلقتُ التنين ورزقه في البحر ومسكنه في السماء وعيناه تتوقدان نارًا ومنخراه يثوران دخانًا، أذناه مثل قوس السحاب يثور منهما لهب كأنه إعصار العجاج جوفه يحرق، ونَفَسَهُ يلتهب، وزبَده جمر كأمثال الصخور، وكأن ضرب أسنانه أصوات الصواعق، وكأن نظر عينيه لمع البرق، تمرُّ به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء ليس فيه مفصل، زبر الحديد عنده مثل التبن والنحاس عنده مثل الخيوط، لا يفزع عن النشاب ولا يخشى وقع الصخور على جسده... هل أنتَ آخذه بأحبولتك وواضع اللجام في شدقه..؟ فقال أيوب عليه السلام: قصرتُ عن هذا الأمر الذي ورد عليَّ، ليت الأرض انشقت لي فذهبتُ ولم أتكلَّم بشيء يسخط ربي..."(11).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) ترجمة ثائر ديب - سيرة الله 1- إله التوراة بوصفه بطلًا روائيًا ص 418.

(2) قصة الحضارة المجلد الأول 1 / 2 ص 393، 394.

(3) ترجمة ثائر ديب - سيرة الله 1- إله التوراة بوصفه بطلًا روائيًا ص 410-414.

(4) أنبياء التوراة والنبوات التوراتية ص 239، 240.

(5) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 170.

(6) سلسلة تفسير - الكتاب المقدَّس يتحدث اليوم - سفر أيوب ص 168، 169.

(7) أيوب الكتاب والرسالة ص 66، 67.

(8) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 1189.

(9) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 1247.

(10) أيوب الصديق ولماذا كانت تجربته ص 88-91.

(11) قصص الأنبياء المُسَمى عرائس المجالس ص 140، 141.

(12) أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم النيسابوري.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1606.html

تقصير الرابط:
tak.la/mf4hfas