St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد القديم من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

1527- إن كانت القاعدة العامة نجاة الأبرار وهلاك الأشرار (أي 4: 7، 8) فلماذا اختلت هذه القاعدة في حالة أيوب البار؟

 

ج: 1- قال أليفاز التيماني لأيوب: "اُذْكُرْ: مَنْ هَلَكَ وَهُوَ بَرِيءٌ، وَأَيْنَ أُبِيدَ الْمُسْتَقِيمُونَ؟ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ: أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْما،ً وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا" (أي 4: 7، 8). إذًا هذا القول هو قول أليفاز التيماني الذي سجله الكتاب المُقدَّس، وهو ليس بالضرورة أن يكون مطابقًا لحالة أيوب، ولا ننسى أن الرب أدان أليفاز وصديقيه: "أَنَّ الرَّبَّ قَالَ لأَلِيفَازَ التَّيْمَانِيِّ: قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ" (أي 42: 7).

وقول أليفاز يمثل القاعدة العامة في هذا العالم الحاضر، فالخير يلحق بالأبرار كقول المُرنِّم: "أَيْضًا كُنْتُ فَتىً وَقَدْ شِخْتُ، وَلَمْ أَرَ صِدِّيقًا تُخُلِّيَ عَنْهُ، وَلاَ ذُرِّيَّةً لَهُ تَلْتَمِسُ خُبْزًا" (مز 37: 25)، والشر يلحق بالأشرار، فكل إنسان يجني حصاد ما زرعه، كقول أليفاز هنا: "أَنَّ الْحَارِثِينَ إِثْمًا، وَالزَّارِعِينَ شَقَاوَةً يَحْصُدُونَهَا " وهكذا قال السيد المسيح فيما بعد: "وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (مت 7: 2)، وقال بولس الرسول: "شِدَّةٌ وَضِيقٌ، عَلَى كُلِّ نَفْسِ إِنْسَانٍ يَفْعَلُ الشَّرَّ:... وَمَجْدٌ وَكَرَامَةٌ وَسَلاَمٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ الصَّلاَحَ:... لأَنْ لَيْسَ عِنْدَ اللهِ مُحَابَاةٌ" (رو 2: 9-11).. " فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا" (غل 6: 7) ويكمن خطأ أليفاز هنا أنه لم يرى أي استثناء لهذه القاعدة، وبموجب هذه القاعدة العامة يصبح أيوب البار مُدانًا وشريرًا يجني ثمار شره. هذا خطأ ارتكبه أليفاز في حق أيوب البار إذ أدانه هنا بالتلميح، ثم وجه له بعد ذلك اتهامات صريحة وقاسية، حتى أنه قال له: " أَلَيْسَ شَرُّكَ عَظِيما،ً وَآثَامُكَ لاَ نِهَايَةَ لَهَا؟ لأَنَّكَ ارْتَهَنْتَ أَخَاكَ بِلاَ سَبَبٍ. وَسَلَبْتَ ثِيَابَ الْعُرَاةِ. مَاءً لَمْ تَسْقِ الْعَطْشَانَ، وَعَنِ الْجَوْعَانِ مَنَعْتَ خُبْزًا... الأَرَامِلَ أَرْسَلْتَ خَالِيَاتٍ، وَذِرَاعُ الْيَتَامَى انْسَحَقَتْ. لأَجْلِ ذلِكَ حَوَالَيْكَ فِخَاخٌ. وَيُرِيعُكَ رُعْبٌ بَغْتَةً" (أي 22: 5-10).

 

2- في الأصحاحات الأولى للكتاب المقدَّس شهدنا مقتل هابيل وهو إنسان بار بيد أخيه الشرير قايين، وقد شهد السيد المسيح لهابيل: "دَمِ هَابِيلَ الصِّدِّيقِ" (مت 23: 35) وقال يوحنا الحبيب: "كَانَ قَايِينُ مِنَ الشِّرِّيرِ وَذَبَحَ أَخَاهُ. وَلِمَاذَا ذَبَحَهُ؟ لأَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ شِرِّيرَةً، وَأَعْمَالَ أَخِيهِ بَارَّةٌ" (1يو 3: 12)، وفيما بعد سُفك دم "زكريا بن برخيا" لمجرد أنه نبه الشعب الذي سقط في العبادات المرذولة (2أي 24: 20، 21) وهكذا دم " إشعياء " النبي الإنجيلي وكثير من الأنبياء، و"يوحنا المعمدان " وبقية الشهداء على مدار التاريخ والأيام... أليس كل هذه استثناءات من القاعدة العامة؟!

 

3- يقول " وليم كلي": "أن هابيل قد هلك. وهنا نتكلَّم عن الهلاك في هذا العالم فأيوب لم يكن لديه أي شك فيما يتعلّق بالعالم الآخر، ولم يكن أصحابه يتحدّثون عن العالم الآخر بل عن العالم الحاضر. إن الموضوع لم يكن متعلّقًا اطلاقًا بالإيمان، بل كان الأمر كله يدور حول العبادة، فكانوا يستمدون جميع استنتاجاتهم مما يرون ومما يشاهدون. وهذا دائمًا أساس خاطئ لا يمكن للمؤمن أن يستند عليه... فهابيل كان مستقيمًا ومع ذلك فقد أُبيد بيد الرَجُل غير المستقيم... ولذلك يمكن القول أن هابيل " هلك " فيما يتعلّق بالحياة من هذا العالم، وهي الدائرة الوحيدة التي تتناولها بالمناقشة هذه الفصول من سفر أيوب. ذلك كان موضوع النقاش العظيم بينه وبين أصحابه، فلم يتعدَ الأمر ما كان دائرًا في الوقت الحاضر. وقد استنتجوا من ذلك أنه لا بد أن يكون عند الله تهمة خطيرة للغاية ضد أيوب ولكن لم يكن هناك شيء من ذلك على الإطلاق، بل على العكس كان الله هو الذي ينظر إلى أيوب بالتقدير والإعجاب"(1).

 

4- يقول " ديفيد أتكنسون": "المنطق لا يكفي: لكن أليفاز كان أيضًا خاطئًا، لأنه اعتقد خطأ بأن هذا هو المبدأ اللاهوتي الوحيد على طول الخط، من حيث أن كل ما تحصده يجب أن يأتي من شيء قد زرعته أنت. وهو الأمر الذي يصعب تطبيقه على أيوب، ويبدّل أليفاز هنا اللاهوت بالمنطق السيبي Cousal Logic فهو يأخذ المبدأ اللاهوتي، ويطبقه بشكل خاطئ وغير عادل.

لذلك، يجب علينا أن نكون واعين تمامًا لما يحدث هنا، فاعتقادنا بأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، هو إقرار إيمان بكل معنى الكلمة، فنحن نؤمن أن الله صالح، هو الخالق العظيم الذي يعرف ما هو الأفضل لشعبه، ونؤمن أيضًا بأنه سيدين المسكونة بالحق والعدل. لكننا لا نعرف دائمًا ما هو الأفضل لنا، ولا نعرف أيضًا كيف يدير الله عالمه، وفي واقع الأمر ما نراه أحيانًا يبدو أنه يتعارض مع إيماننا بصلاح الله، فنصرخ مع المُرنِّم (مز 73: 3) " لأَنِّي غِرْتُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ".

وبكلمات أخرى... فإن هناك جانبًا غامضًا عن حقيقة الإيمان. لكن رغم هذا الجانب الغامض، إلاَّ أننا لازلنا نؤمن أن الله يكافئ الأبرار ويدين الأشرار. وحينما أقرَّ أليفاز بذلك (أنك تحصد ما تزرع) كان الحق، ولكن حينما قلب فكرة المزمور الأول رأسًا على عقب، وأكد أن النكبات التي يحصدها أيوب، ما هي إلاَّ ثمر أفعاله، فقد ترك الإيمان بالله الحي مفضلًا المنطق الإنساني العادي... وقد فشل أليفاز في تمييز وجهة النظر السماوية من وجهة النظر الأرضية، فتناول وجهة النظر الطبيعية السهلة المتعلّقة بالأسباب والنتائج... إن هذه المعادلة السقيمة التي تربط بين الآلام والخطايا تأتي من عملية سقيمة للمجادلة بحقائق لاهوتية ضيقة... فالإيمان الحي بالله كلي القدرة والصلاح والنعمة قد تحوَّل إلى إيمان عقلاني، يقوم على نظرية المسببات الطبيعية"(2).

 

         5-  يقول " القمص تادرس يعقوب": "في رأي أليفاز لا يوجد إنسان بار قد هلك، ولا مستقيم قد أُبيد. يطلب منه مثلًا واحدًا خلال خبرة أيوب الطويلة في كل عمره عن بارْ أو مستقيمٍ قد حلَّ ما حلَّ بأيوب. هذا مبدأ لاهوتي أخلاقي كان سائدًا في أذهان الكثيرين، فأنه حتى بعد الشريعة كان داود يدهش معاتبًا الرب كيف يُنجِح طريق الأشرار، ويسمح بالضيقات للأبرار. لكن سرعان ما يكتشف الحقيقة، فأنه حتمًا ينال الأبرار مكافآتهم السماوية، ويسقط الأشرار المصرون على شرهم تحت الدينونة... حديث أليفاز صادق لو أنه قصد بالهلاك والإبادة ما هو أبدي، أمَّا ما يطبقه على النكبات الزمنية فغير صحيح، لهذا فإن حديثه لا ينطبق على أيوب إذ لم يكن قد هلك أبديًا...

"ويقول البابا غريغوريوس الكبير": "أي بريء يهلك؟ وأين أُبيد المستقيمون؟ لكن غالبًا ما يحدث في هذه الحياة أن يهلك البريء، ويُبيد المستقيمون تمامًا، لكن في هلاكهم يُحفَظون للمجد الأبدي. لو أن ليس من بريء يهلك، لما قال النبي: "بَادَ الصِّدِّيقُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ ذلِكَ فِي قَلْبِهِ" (إش 57: 1). لو أن الله في عنايته لم يبد المستقيمون لما قالت الحكمة عن الصديق: "نعم بسرعة قد أُخذ. لئلا يحوّل الشر فهمه" (حك 4: 11)"(3).

 

6- لم يهلك ولم يحترق أيوب بنيران التجربة التي جاز فيها، إنما تنقى بلظى هذه النيران من بره الذاتي، بعد أن تجرد من كل شيء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول " تشارلس ماكنتوش": " أيوب لم يسبر غور قلبه ولم يعرف ذاته تمامًا. استعصى عليه إدراك حقيقة خرابه الكُلّي وفساده الكامل. لم يتعلَّم أن يقول " أنا أعرف أن فيَّ أي في جسدي لا يسكن شيء صالح"... إن ضمير أيوب لم يكن أمام الحضرة الإلهيَّة وأنه لم يرَ نفسه في النور الإلهي. لم يقسها على المقياس الرباني ولم يزنها في موازين المقادس السماوية... ولو رجع القارئ إلى الأصحاح التاسع والعشرين لرأى برهانًا ساطعًا لما نقول إذ يشاهد جليًا جذور البِرّ الذاتي والافتخار بمحاسن النفس نامية في قلب عبد الرب العزيز المشهور كما أنه ينظر كيف أن البركات الأرضية التي زوده بها الله قد آلت إلى زيادة نمو هذه الجذور... ويتضح من عباراته ونغماته كيف كان من الضروري أن يُجرَد أيوب من كل شيء كي يدرك ذاته في نور الحضرة الإلهيَّة. والآن لنعر أذانًا صاغية لما يقول:

 " يَا لَيْتَنِي كَمَا فِي الشُّهُورِ السَّالِفَةِ وَكَالأَيَّامِ الَّتِي حَفِظَنِي اللهُ فِيهَا، حِينَ أَضَاءَ سِرَاجَهُ عَلَى رَأْسِي، وَبِنُورِهِ سَلَكْتُ الظُّلْمَةَ... وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ضَحِكَ عَلَيَّ أَصَاغِرِي أَيَّامًا، الَّذِينَ كُنْتُ أَسْتَنْكِفُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَ آبَاءَهُمْ مَعَ كِلاَبِ غَنَمِي" (أي 29: 1-30: 1). هذه أقوال بالغة بلا شك الحد الأقصى من العظمة وإننا لنتلمس عبثًا العثور فيها على أي أثر للروح المنسحقة المنكسرة، كما أنه ليس هنالك أية إشارة تشعر بعد الثقة بالنفس أو التقزز من الذات، ويتعذر علينا أيضًا أن نجد عبارة واحدة تنبئ عن الشعور بالضعف والإحساس بالفراغ، بل بالعكس نشاهد خلال هذا الأصحاح أن أيوب يشير إلى نفسه أكثر من أربعين مرّة في حين أنه يشير إلى الله خمس مرّات فقط، وهذا يعيد إلى ذاكرتنا الأصحاح السابع من الرسالة إلى أهل رومية حيث نجد كلمة " أنا " يغلب ذكرها، ولكن شتَّان بين الاثنتين " فأنا " في تلك الرسالة هو شخص يقر أنه إنسان مسكين ضعيف لا حول له ولا قوة غير نافع بالمرّة، خليقة محتقرة أمام ناموس الله المقدَّس بينما " أنا " في أيوب ص 29 هي كناية عن شخص ينبئ عن نفسه أنه ذو نفوذ وجاه يعجب به الجميع ويكاد الكل أن يخروا له سجَّدًا.

مِن هذا نجد أن تجريد أيوب من كل ما كان عنده كان أمرًا ضروريًا، ولو راجعنا الأصحاحين التاسع والعشرين والثلاثين لرأينا كيف كانت عملية التجريد مُرّة ومؤلمة"(4).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) إحدى عشرة محاضرة في سفر أيوب طبعة 1955 م. ص 32، 33.

(2) سلسلة تفسير الكتاب المقدَّس يتحدث اليوم - سفر أيوب ص 58، 59.

(3) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 172، 173.

(4) ترجمة أحد الإخوة - أيوب وأصحابه ص 1007.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1527.html

تقصير الرابط:
tak.la/6cks383