St-Takla.org  >   books  >   fr-sarafim-elbaramousy  >   toward-repentance
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب نحو التوبة - الراهب سارافيم البرموسي

8- التوبة

 

من الأمور التي يجب علينا أن ننتبه لها، هي أن السقوط في خطيئةٍ وليدة الضعف ليس كالسقوط في خطيئة ناتجة عن قساوة واستهانة. وأن العناد في الخطيئة يُفْقِد الروح قدرته!! على التدخل لإنقاذ ذلك الإنسان. ولنا في مَثل فرعون، الذي عاند دعوة الله لشعبه إلى البريَّة، شهادةً على عنادٍ إنسانيٍّ يمكنه أن يصل بالنفس إلى الغرق والهلاك.

ولكن على الجانب الآخر، حينما يجثو الخاطِئ أمام الله، وليس في فمه كلمات، لا يدري ماذا يفعل، فحينما تكلَّم قبلًا كانت كلماته وعودًا وعهودًا، ولكن الخطيئة قد أذابت كلّ تلك الوعود وطرحت النفس عارية، في خزيٍّ وألمٍ، في محضر الله. ولم يتبق لذلك الإنسان إلاّ أنْ يرفع عينيه إلى السماء؛ أعين تمتزج فيها الحيرة والندم مع الشوق. تصير نظراته التي يُرْسِلها إلى الأعالي هي صلاته الصامتة التي تعكس حالته وحيرته ورجاءه «ونحن لا نعلم ماذا نعمل؟ ولكن نحوك أعيننا» (2 أخ20: 12). هنا لا يملك الله أمام تلك النفس التي تريد ولا تستطيع، إلاّ أنْ يُشدِّد ضعفها ويُعزِّي قلبها الكسير بل ويمنحها الغفران. فالله لا يحتمل قلبًا مُنسحِقًا وعينًا مُنكسرةً وعَبَراتً مُتساقِطةً في رجاء الفجر الآتي.

إنها التوبة التي تفتح كُوى السماء لتأتي لنا بالمطر الروحاني (النعمة) فتبتل أرض الروح الإنسانيَّة المقفرة وترتوى بعد عطشٍ وحدبٍ.

والتوبة الكتابيَّة ليست حالة من الحزن، بقدر ما هي لحظة انفتاح على حقيقة الحياة. ترى فيها النفس، الحق والباطل، تُبصِر من خلالها، النور والظلمة، تضع يدها على الهوَّة التي تفصل بين مجد السماويات وملذَّات الأرضيات.

إنها نظرة إلى فوق برجاء حي مُتجدِّد لا تُعرْقِله أثقال الخطيئة ولا يُوقِفه هول التعديات، لأنه رجاء في ثالوث الحبّ. إن مثل تلك النظرة إلى أورشليم العليا تجتذب الإنسان للجمال غير المادي؛ جمال الحق والنور والقيامة.

St-Takla.org Image: Repent and Pray, by Sister Sawsan صورة في موقع الأنبا تكلا: توبة و صلاة، رسم تاسوني سوسن

St-Takla.org Image: Praying in repentance, Repent and Pray: A Coptic woman/girl praying and crying, with her hands up, along with a candle, by Sister Sawsan.

صورة في موقع الأنبا تكلا: الصلاة بانسحاق، توبة و صلاة: امرأة/فتاة قبطية تصلي وتبكي، ويداها مرفوعتان، وخلفها شمعة، رسم تاسوني سوسن.

كما أن التوبة ليست موقفًا سلبيًا نذرف فيه الدموع على اللبن المسكوب، دون التحرُّك للأمام. إنها ليست لحظات ساكنة نقضيها في التحسُّر على الماضي المُنْقضي، ولكنها حركة دؤوبة تُشعِل النفس لتغيير موقفها من الحياة بأبعادها الثلاثة (الذات والآخر والله).

إنها لحظات فرح وسلام وإن كان تعبير الجسد عنها دموع وأنين. فأنين وألم وأحزان التوبة مُبْهِجة ومُفْعَمة بالسلام القلبي. لذا عبَّر الرسول بولس عن هذا الحُزن المُبْهِج قائلًا عنه إنه: «الحُزن الذي بحسب مشيئة الله» الذي «يُنشِئ توبةً لخلاصٍ بلا ندامة» (2كو7: 10). فتوبة الخلاص لا ترتكز على الندامة، بل على الحُزن الفعال الإيجابي المُنْطلِق إلى الأمام بعمل روح الله.

وإن كان تعريف الخطيئة كما كتب كيركجارد Søren Kierkegaard هو القلق، نجد أن ميرالوت بورودين في كتابها (سِرّ عطيَّة الدموع في الشرق المسيحي) تكتب أن [الحُزن المسيحي لا يقلق لأنه لا ييأس].

إن الاختلاف بين الحُزن الناتج عن الخطيئة، والحُزن المسيحي الذي بحسب مشيئة الله، هو أن الأوَّل حُزنٌ قَلِق بينما الأخير حُزنٌ لا يعتريه القلق لأنه مُمتلِئ بالسلام، نتيجة الثقة في صلاح الله وغفرانه. لذا فإن الحُزن المسيحي لا يقود لليأس كما أشارت ميرالوت. فاليأس هو فقدان الثقة، بينما التوبة هي استعادة الثقة دُفعةً أخرى.

إن تلك النظرة الجديدة تضع الإنسان أمام محك اختيار؛ فأمجاد الأبديَّة قد انكشفت للنفس كعربون في لحظات صفاء الروح. وفي المقابل تقف خبرة ملذَّات الحياة الحاضرة، المُلوَّثة بنكهة الموت، مُنْتصِبة بجموحها وصخبها. فإن اختار الإنسان الحياة التي مركزها الله، انطرحت خطاياه في بحر النسيان، لتُلْقَى في العدم الدهري وتتلاشَى. وإن اختار اللحظة الحاضرة وليدة اللذَّة وأسيرة اللذَّة، تثقَّلَت نفسه بالأكثر بأغلال الخطيئة وهَوَتْ إلى دركات العالم المادي الذي يتمركز حول رئيس العالم الموُكَل بظلمة هذا الدهر. فالتوبة إذًا هي خيار يتوقف عليه وجهتنا.

وعن هذا المفهوم الخاص بالتوبة، يُحدِّثنا كاليستوس وير Kallistos Ware، في كتابه (الملكوت الداخلي) قائلًا:

إنها (التوبة) ليست مجرد التأسُّف على الماضي،

بل تغيير جذري لنظرتنا،

وطريقة جديدة ننظر بها إلى أنفسنا وإلى الآخرين وإلى الله...

إنها ليست بالضرورة أزمة انفعالية،

ليست نوبة من الندم والعطف على الذات،

بل هي تحوُّل،

هي إعادة جعل الثالوث القدوس مركز حياتنا ومحورها.

هي ليست قنوطا، بل هي توقع وانتظار باشتياقٍ...

ليست الشعور بالوصول إلى طريقٍ مسدودٍ،

بل أن تجد الطريق للخروج،

أن أتوب هو أن أنظر لا إلى أسفل...

إلى نقائصي وعيوبي الخاصة،

بل أنظر إلى أعلى إلى محبّة الله...

لا أن أنظر إلى الخلف لألوم نفسي،

بل أن أنظر إلى الأمام بثقةٍ...

التوبة ليست هي أن أرى ما هو الذي فشلت في أن أكونه،

بل أرى ما الذي أستطيع أن أصيره، بنعمة المسيح.

إنها ليست مجرد حدث يحدث مرّة واحدة،

 بل هي موقفا مستمرًا.

وبالرجوع إلى النهج الإلهي في تعامل الله مع شعبه في العهد القديم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- نجد أن بني إسرائيل لم يتوقَّفوا  حتّى مجيء المسيح  عن تقديم الذبائح في الخيمة والهيكل، وذلك لأن الخطيئة لم تتوقَّف في حياتهم. فكما وضع الرب لبني إسرائيل، الذبائح، للتكفير عن الخطيئة، حينما يتعثرون في الطريق ويميلون لسلوك وعبادات للأمم، هكذا نحن الذين صرنا مسكنًا للروح، قد وَهَبَ لنا الرب، التوبة، ذبيحته المُفَضَّلة، لإعادة النقاوة لثوب معموديتنا الأبيض، وليعلن لنا أنه ربًّا «غنيًّا لجميع الذين يدعونه» (رو10: 12)، فالله دائمًا أغنَى من أقصى طموحاتنا في طلب الرحمة.

وعن غنى النعمة التي تنساب بلا حساب، يكتب القديس يوحنا ذهبي الفم ( تفسير متى 118/ 4)، فيقول:

النعمة لا تُستنفَذ ولا تضيع، فهي ينبوع دائم الجريان.

فإن كان طلبك هو الرحمة يعطيك معها  بحسب غناه  النعمة، وإن طلبت الخلاص زيَّنه لك بالبهجة، وإن التمست المُتَّكأ الأخير، رفعك إلى مائدة الملوك، وإن سعيت في التوبة وهبك معها القداسة. فالله دائمًا هو القادر «أن يفعل أكثر جدًّا ممّا نطلب أو نفتكر» (أف3: 20)، وعطيته دائمًا «بحسب كرم الملك» (1مل10: 13) وليس بحسب طلبة واستحقاق العبيد.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/toward-repentance/touba.html

تقصير الرابط:
tak.la/33q7swy