St-Takla.org  >   books  >   fr-sarafim-elbaramousy  >   light
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتاب قبطي | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي

7- الفصل السادس: المحنة

 

لم تكن سمعة النساء في روما أو المدن ذات السيادة الرومانيّة حسنة، فلقد كتب الشاعر جوفنال عن نساء روما قائلًا إنّهن أنانيّات، سليطات، مُخرِّفات، مسرفات، كثيرات الشجار، متعجرفات، مغرورات، مُحبّات للنزاع، زانيات، لا يكدن يتزوّجن حتّى يُطلّقن، ويستبدلن الكلاب المدلّلة بالأطفال. ولم تكن نساء الإسكندريّة سوى صورة من نساء روما ولكن في ثوبٍ شرقي مُتهلّلن. كان القانون الروماني لا يسمح بالزنى إلاّ أنّه أجاز تسجيل النساء كعاهرات في سجلاّت الدولة حتّى يتسنّى لهن ممارسة هذا النشاط الأثيم دونما مُساءَلة أو مُلاحقة قضائيّة. يمكنك أنْ تجدهن في أماكن ارتياد أشراف المدينة؛ عند مداخل المعابد، تحت الأروقة ذات العُمَد، في حلبات المصارعة، في دور التمثيل، في المتنزّهات والحدائق، في الحمّامات العّامّة، في الكثير من الأماكن. إلاّ أنّ أماكن الفقراء والمساكين لم تطأها أرجلهن.

وبالرغم من ثراء مدينة الإسكندريّة كأهم ميناء على البحر وكأكبر مركز علمي في العالم القديم إلاّ أنّ شوارعها الفسيحة كانت تغصّ بالمتسوّلين والمرضَى والمنكوبين ومن أثقلتهم الضرائب فراحوا يتلمّسون قوت يومهم. فالمدينة التي صارت موئلًا للعلوم والفنون والآداب.. ومَحَجّة الترف والمتعة.. وبلدة القصور المنيفة والحدائق الغنّاء.. كانت تعجّ أيضًا بالبؤس والشقاء. كان يتوافد عليها السُّكّان من مختلف أصقاع البلاد أملًا في لقمة العيش وتحسُّن الأحوال، فلا يجدون سوى الأرصفة لهم مسكنًا..

كانت ميلانيه وإيلارية وماريا فتيات مسيحيّات من بيوتٍ تحيا في رَغَد العيش. إلاّ أنّهن بحثن عن الطريق الحقيقي المؤدّي إلى ملكوت الله. ذات يوم وهن جالسات في مدرسة الإيمان يتلقّن التعليم المسيحي، سمعن المُعلِّم يقول:

أحبّائي، ليس هناك سوى إله واحد لذا فإنّ الخليقة واحدة في عين الآب، بلا تمييز، اليوناني كاليهودي كالمصري كالروماني، العبد كالحرّ، الفقير كالغني، العالِم كالأميّ، الكلّ مدعو من الآب ومقبول من الآب، بل وأيضًا الرجل كالمرأة.

هل تعتقدون أنّ المرأة أدنى من الرجل كما يشيع المجتمع من حولنا؟ دعوني أقول لكم إنّ فضيلة الرجل هي بعينها فضيلة المرأة، لأنّ إله الاثنين واحد، سيّد الاثنين واحد، يحيون في كنيسة واحدة، يتلقّون حكمة واحدة، يحيون في اتّضاع واحد ويتناولون غذاء واحد، والزواج هو رابطة يخضعون لها على قدم المساواة. أنفاسهم.. بصائرهم.. أسماعهم.. معارفهم.. آمالهم.. طاعتهم.. كلّ شيء بينهم متشابه. لهم نفس الشركة ونفس النعمة ونفس التفكير.. كليهما شريك في الخلاص بقدرٍ متساوٍ.. لقد وحّد الخلاص، الجميع، في الآب.

ولكن مَنْ هي الفتاة المسيحيّة المُجمَّلة بنعمة الله؟؟

يقول أرسطوفان في ملهاتِه عن زينة النساء إنّها: شرائط الشعر ومناديل الرأس وكحل الأعين والثياب الضيّقة واللّفاح ذو الحواف الأرجوانيّة والقلائد.. أمّا مُعلِّمنا فيقول إنّ الزينة الحقيقيّة تكمن في الروح الوديع الهادئ ذو الثمن الغالي في أعين الله.

إنّ الجمال الحقيقي ليس في حُلي الذهب والفضة والأحجار الثمينة والأثواب البرّاقة، تلك التي تخفي الجمال البسيط الذي هو عطيّة الله. فالزينة الحقيقيّة هو الكلمة الذي من خلاله وحده يتّضح الذهب المُكلِّل للروح كما يتألّق جمال الروح في نور محضره غير الموصوف.

إنّ مَنْ يتبعن المسيح عليهن أنْ يتمسّكن بالبساطة التي تصل بهم إلى القداسة. فالقداسة لا يمكن أنْ تظهر حينما يتّسع الفارق بين البشر. البساطة تنزع من روح الإنسان العُجب والكبرياء والتعظُّم والتفاخر. هل تردن أنْ تتعلّمن ما هي الزينة الحقيقيّة؟ إنّها الفهم والحكمة لا بكحل الأعين وثقب الآذان. فزينة الآذان هي التعليم الصادق أما كحل الأعين هو الكلمة..

ليكن عطر المرأة الذي يفوح منها هو العطر الملكي الحقيقي الذي من المسيح، لا الناتج عن المساحيق المُعطّرة. لتكن رائحتها دومًا هي التي تنبع من طهرها ووداعتها، إذ تجد لذّتها في الأطايب المُقدّسة التي للروح. هذا هو الزيت العَطِر الذي يُهيّئه المسيح للتلاميذ، ذاك المصنوع والمُركَّب من مكونات زكيّة الرائحة.. سماويّة..

تخلَّت الفتيات عن زينة العالم وقرّرن أنْ يتزيّن بالفضيلة ويرتدين المحبّة لكلّ الخليقة، كثوبٍ برّاقٍ في أعين الجمع السماوي.

لم يكتفين بعدم التحلّي بالحُلي الذهبيّة المُرصّعة بالأحجار الكريمة، ولكنّهن وضعن في قلوبهن الاعتناء بالفقراء ورعاية الذين لاحقهم الدهر بالجوع والفاقة؛ فالفروق بين البشر تتلاشَى حينما تتلامس أيدي الأغنياء والفقراء وتشتبك بالحبّ. كُنّ يقضين وقتهن بين حضور مدرسة الإيمان والصلاة والخدمة في بيت المحبّة كما أسموه لإعلان حبّ الله لكلّ الخليقة.

نزلن إلى الأجورا ليبتعن احتياجات النزل الذي عملن فيه على رعاية الفقراء. وفي الصباح الباكر، في الطريق، لاقين رجلًا مُسنًّا أعرج يستعطي ولا يبالي به أحد، كانت ملابسه مُمزّقة بالية، ويبدو عليه أنّه كان غريبًا بلا مأوى. عرضن عليه المساعدة والإيواء والقليل من الطعام، وحينما سألهن بأعينٍ أغرورقت بالدموع لماذا يبدين له تلك الرقّة المتناهيّة؟ أجبنه إنّهن مسيحيّات وأنّ الربّ يسوع هو الذي أوصاهن برعاية الفقراء والمحتاجين.

كان مارًّا بجانبهن عبدُ كاهن سيرابيس الأعظم وقد ألقَى بآذانِه وسطهم ليلتقط كلمات الحديث، ومن ثمّ نقلها إلى الكاهن الذي يستعلم منه عن أحوال المدينة كلّ يوم.

أخبر العبد سيّده بما دار في الأجورا بين الفقير الأعرج والفتيات المسيحيّات، ممّا أغضب الكاهن الذي أرسل إلى الوالي يُحذّره من حدوث فوضَى في المدينة إنْ لم يتدخّل لمنع الفتيات من اجتذاب الفقراء إلى دين المصلوب.

خاف الوالي من كلمات كاهن سيرابيس ذو السطوة والحظوة عند أشراف المدينة، فأرسل الجنود إلى النزل الذي يُقِمن فيه. اقتادوهن إلى دار الوالي بامتهانٍ وسخريةٍ شديدين.

دخل بهم الجند إلى دار الولاية. أوقفوهن أمام الوالي الذي نزل دركات كرسيه المُذهَّب ودنا منهم، مختالًا، وبادرهم قائلًا: ما لكم وفقراء المدينة، هل تجتذبونهم إلى دينكم المقيت بفتات الطعام؟

أجابت ميلانيه وهي أكبرهن سِنًّا، وقالت: إنّنا نساعد الجميع دون أنْ ندفع أحدًا لاعتناق إيماننا.

- ولكنّكن تُقدّمن الطعام للجوعَى، لكي ما يَقْبلن ما تملوه عليهم فيما بعد.

- إنّنا نُقدّم الطعام لأنّ وصيّة إلهنا تدفعنا إلى هذا.

- وبماذا أوصاكم المصلوب؟

- كلّ مَنْ سألك فأعطه، ومَنْ أراد أنْ يقترض منك فلا تردّه..

ضحك الوالي وهو ينظر إلى ضُبّاط مجلسِه، ويقول: إنّ المصلوب يوزِّع الطعام مجّانًا على الجميع -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- إنّه يريد أنْ يصبح صاحب العطايا عوضًا عن الإمبراطور!!

- إنّ وصيّة إلهنا تدفعنا لأنْ نُحبّ الجميع دونما تمييز، وإنْ كانوا أعداءنا.

- وهل تُحبّين الإمبراطور إذًا؟

- بالطبع، أحبّه وأصلّي من أجل خلاصه ليل نهار..

قال بسخريةٍ: لهذا تأتي المِحَن والبلايا على الإمبراطوريّة..

- إنّ المِحَن والبلايا تأتي بسبب رفض الإله الوحيد وكذلك بسبب شرور روما ومواطنيها في كلّ مكان.

- أتجرؤين على إهانة المواطنين الرومان أسياد العالم.

أجابت بصوت لم يخلو من قوّةٍ وبأسٍ:

يوجد سيّد أوحد للعالم هو الربّ يسوع.

قام من على كرسيه وتوجّه نحوها ولَطَمَها بقسوةٍ وهو يقول: أنا السيّد ههنا وليس آخر..

مسحت بظهر يدها اليمنَى الدم المُنسلّ من فمها وهي تقول:

- لقد قال السيّد الربّ: يَا أَحِبَّائِي: لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ أَكْثَرَ.. خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هَذَا خَافُوا!.

أنت تسود على ترابٍ سينتهي بنهاية أيامك على الأرض، بينما سيّدي يسود على الكون والخليقة إلى أبد الدهور..

احتدّ الوالي قائلًا: حسنًا سأريكن جُهنّم الحقيقيّة.. أشار لجنودِه وهو ينفث غضبًا ويقول: القوا بهن في السجن وليُمنَع عنهن الطعام حتّى يُدرِكوا مَنْ هو السيّد الحقيقي.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/fr-sarafim-elbaramousy/light/ordeal.html

تقصير الرابط:
tak.la/3tnpyqd