St-Takla.org  >   articles  >   fr-seraphim-al-baramosy  >   a
 

مكتبة المقالات المسيحية | مقالات قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي - تاريخ المقال: أكتوبر 2010

50- روح الترتيل بالمزامير

 

كاسيان يرصد لنا البُعد الداخلي وكذلك الهدف الروحي من المزامير والتأمُّل في النصوص المُقدّسة والتي كان ينخرط فيها الرهبان أثناء ممارستهم للعمل اليدوي. يصف لنا كاسيان في المناظرة العاشرة (المناظرة الثانية لأبّا إسحق) الصلاة التي يُردّدها الراهب مع ذاته بشكلٍ مستمر، ويشرح ذلك من خلال “حدود الآية الواحدة الضيقة” ولكن مع تأمُّل ممتلئ بالاشتياق من نحو الله، إذ يبدأ الذهن بطرد “غنَى وتعدُّد الأفكار”(2) ليصعد كالوعولِ كما في مزمور (103: 18) إلى “أسرارٍ مُقدّسة سامية”(2). وللوهلة الأولى يبدو هذا الرفض لغنَى تعدديّة الأفكار أثناء الصلاة لصالح “الفقر” (يقصد قلّة كلمات الصلاة) والتي هي عينها “الصلاة النقيّة” عند مار أوغريس، تلك التي تتخطّى الصور والأفكار. ومن تلك الصورة للصلاة ينطلق كاسيان ليصف “الأيِّل المُقدّس” الذي يصعد إلى “معرفة الله المتنامية من خلال الاستنارة الإلهيّة”.(3)

إنّ الهدف من تلك الصلاة ليس التحرُّر من الكلمات والصور بقدر ما هي القدرة على تقبُّل «حكمة الله المتنوّعة» (انظر: أف3: 10)، لكي نستطيع أن نعي بشكلٍ أفضل ونقبل باطنيًّا الغنَى المتنوِّع في الصور والكلمات التي في كتاب المزامير:

“.. حينما يقبل [المرء] في داخله كلّ الحالات الباطنيّة [التي وردت] في المزامير، سيبدأ في الترتيل، لا كأنّها تأليف أحد الأنبياء، ولكن ككلماته الشخصيّة والذاتيّة الخارجة من عمق أعماق القلب: وسيفسِّرها كما لو كانت موجّهه له شخصيًّا، واعيًا أنّ تلك الآيات لم تُستنفذ مسبقًا في حياة أحد الأنبياء، ولكن سيمتد المعنَى ليشمل تحقيقها وفعلها يوميًّا، فيه، بشكلٍ شخصي”(4).

يتّضح من خلال هذا النصُّ أنّ ترتيل المزامير عند كاسيان لم يكن بمثابة تهيئة للصلاة التي كانت تُقدّم في الوقفات بين المزامير، بل إنّ المزامير نفسها ينبغي أن تُرتل كصلاةٍ شخصيّةٍ. ومن المُؤكّد أنّ ترتيل المزامير يقود إلى التوبة ونوال التقديس بشكلٍ مستمر ومُتجدِّد من قِبَل الله. تلك الحالة أطلق عليها آباء البريّة: نخس القلب (التخشُّع) κατανυξις(5).

في رؤية كاسيان، نجد أنّ ترتيل المزامير ليس استدعاء من الماضي لأحداثٍ من حياة بني إسرائيل، ولكنه فرصة لنوال بصيرة الروح الثاقبة، تلك التي تتّجه نحو الكيان الداخلي من أجل وعي أعمق لمعنَى الجهاد النُسكي في الحياة الشخصيّة. لذا فإنّ ترتيل المزامير ليس هروبًا من العالم الواقعي إلى حالة أخرى من الوعي، كما أنه ليس فرصة للتأمُّل بتقوى في أحداثٍ آمنةٍ بعيدة عنّا كلّ البُعد في الزمن والثقافة. في المقابل، ينصح كاسيان أن يتقبّل الراهب في قلبه المشاعر القلبيّة الباطنيّة التي لكاتب المزامير، وأن يجعل من المزامير فعلهُ الشخصي، فيبدو وكأنّه الناظم الجديد للمزمور(6). ومن خلال تلك الأُلفة مع النصِّ، يتعلّم الراهب أن يرصُد المعنَى العميق للكلمات التي يتهيّأ لترتيلها، ويسمح لها بإنارة خبرته الشخصيّة الحيّة. كما يسترجعُ، أثناء الترتيل، جُملة جهاده اليومي وما لحقه من عثرات وسقطات.

“.. نتذكّر ما حدث لنا طيلة اليوم حينما باغتتنا الأفكار، وإذ نُرتل [المزامير]، نسترجع ما نتج عن تهاوننا، وما ربحناه بالجهاد، وكذلك ما وهبته لنا العناية الإلهيّة، وأيضًا كلّ خديعة قد أثارها الشيطان ضدّنا، فضلاً عمّا فقدناه حينما انزلقنا وصِرنا فريسة للنسيان، وكذلك ما جلبه علينا الضعف البشري حينما خُدِعنا بلامبالاة الجهل”(7)

حينما تُرتِّل المزامير فإنّ المرء يبدو وكأنّه يُحدِّق في “مرآة النفس” حيث صراعه الروحي والشخصي يظهر جليًّا على خلفيّة التاريخ الخلاصي وتحت ضوء الرحمة الإلهيّة.

“إنّنا لنجد في المزامير كلّ تلك الحالات الداخليّة [للنفس]، لذا نرى، كما في مرآة نقيّة، ما يحدث [داخلنا] ونتفهّم تلك الأمور بفاعليّة أكبر، من هنا ندرك أنّ تعلُّمنا ليس من خلال السماع فقط، ولكن بالاختبار الفعلي، في أعماقنا الداخليّة [...]”(8).

إنّ المزامير، عند كاسيان، هي مدرسةٌ متكاملةٌ يتعلّم فيها الراهب تكوين عَلاقة مع الله على خلفيّة ذكرياته الشخصيّة. ولعلّ ما نختبره “داخليًّا” حينما نُرتل هو بمثابة “مُعلِّمين”، يُظهِرون لنا أعماق وغاية مسيرتنا الروحيّة وما يصاحبها من نموٍ أو تعثُّر.

إنّ خبرة الراهب تنكشف أمامه أثناء ترتيل المزامير، وحينما يُنصت للصوت الصادر عن داخله، مع ما يسمعه خارجيًّا ممّا يُرتِّل، يبدأ في الدخول إلى أعماقٍ جديدةٍ من الفهم لكلا الصوتيْن [الداخلي والخارجي]. لذا فإنّ ترتيل المزامير هو بمثابة نوعٌ من التداريب الروحيّة يتعلّم من خلالها، الراهب، فضيلة الإفراز؛ الأفكار الشخصيّة والذكريات والآمال والطموحات، تُختبر وتُفسّر على ضوء كلمة الله أثناء الترتيل. إنّ هذا الاتجاه، يُلقي بالضوء على الصور والقصص التي تبرز أثناء الترتيل، لتُفسَّر كرموزٍ تشرح المسيرة النُسكيّة للراهب. إنّ تلك الطريقة للفهم الشخصي [الذي يُستعلَن أثناء الترتيل] كانت إحدى أدوات تعليم مار أوغريس -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- الذي يمكن قراءة أعماله التفسيريّة وكأنّها “قواميس” روحيّة أو كتب تطبيقيّة تهدف إلى مساعدة الراهب في ممارساته التعبُّديّة الخاصّة.

إنّ شرح كاسيان لترتيل المزامير والصلاة الشخصيّة، بلغ أوجه حينما وصَّف النفس المُتخطيّة الكلمات والصور، أثناء الصلاة، إذ قد أشار إليها بأنّها “صلاة ناريّة”. إنّها حالة لا يمكن بلوغها من خلال تقنيات معيّنة في الصلاة، ولا حتى من خلال ممارسة الصلاة بشكلٍ شخصي والذي يُرجِّحه كاسيان في مناظرته العاشرة.

إنّها، في المقابل، نعمة إلهيّة مُجرّدة، تأتي دونما توقُّع مسبق، على فتراتٍ، وخاصّةً (ولكن ليس على سبيل الحصر) أثناء ترتيل المزامير.

“.. قد يحدث أحيانًا أن تتسبَّب آية من المزامير في تأجيج صلواتنا أثناء الترتيل، وأحيانًا تُساهِمُ طرق التعبير الموسيقيّة بواسطة الأخوة، في النهوض بالذهن المُظلِم إلى التضرُّع بفاعليّة وتركيز. (2) ونحن نعلم أنّ استقامة النطق وحرارة المُرتِّل يمكنها أن تُشعِل حماسة مَنْ يُنصتون”(9).

إنّ “الصلاة النقيّة” الخالية من التصوُّر التي يشيد بها مار أوغريس لها مثيل في كتابات كاسيان، إذ يسمّيها “الصلاة الناريّة” التي ترفع المُصلِّي “فوق الاحتياج للكلمات أو الأصوات”.

“وهكذا فإنّ ذهننا سوف يحصل على الصلاة النقيّة [...] والتي لا تنضوي على التخلُّص من المشاهدة الداخليّة للصور فقط، ولكنّها بالأحرى تتميَّز بإسقاط الاحتياج للصوت أو الكلمة: إذ أنّ تركيز الذهن يشتعل عبر الحمية غير الموصوفة للروح والتي تتدفّق من الذهن المُتّجهُ نحو الله، وهي تكون مصحوبة بأنّات وتنهُّدات لا يمكن التعبير عنها، وهذا كلّه يحدث فوق الحسِّ أو التأثيرات الماديّة”(10).

وبالرغم من أنّ “الصلاة الناريّة” تشغل مكانًا هامًا في توصيف كاسيان للحياة الروحيّة والتي تماثل “الصلاة النقيّة” عند مار أوغريس، إلاّ أنّ كاسيان لا يُشدِّد عليها، خلافًا لمار أوغريس(11). تلك الصلاة عند كاسيان تُمثِّل حالة من التسامي فوق الكلمات، إنّها بمثابة إكليل وتاج للحياة الروحيّة، ولكنّها ليست هدفًا نسعَى وراءه، إذ هي نعمة وهبة إلهيّة، تظهر على فتراتٍ، أثناء مسيرة الإنسان في الحياة الروحيّة.

 

لوقا ديسينجر Luke Dysinger

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

(1) Cassian, Conferences 10.11.1, CSEL 13, p. 303

(2) Ibid., 10.11.2, CSEL 13, p. 303

(3) Ibid.

(4) Cassian, Conferences 10.11.4, CSEL 13, p. 304.

(5) لقد كتب كاسيان عن نخس القلب كأحد الثمار التّامة من ترتيل المزامير

Conferences 1.17.2, CSEL 13, p. 26

وقد شرح Johannes Quasten الدلالة الرهبانية المبكرة للعلاقة بين نخس القلب واستخدام الموسيقى في الكنيسة الأولى في كتاب

The Doctrine of Katanyxis: Oriental Monasticism as Inimical to Artistic Singing’, in Music and Worship in Pagan and Christian Antiquity, pp. 94-8..

(6) Cassian, Conferences 10.11.5, CSEL 13, p. 305

(7) Ibid., 10.11.5, p. 305.

(8) Ibid., 10.11.6, p. 305

(9) Ibid., 9.26.1-2, p. 273.

(10) Ibid., 10.11.6, p. 305.

(11) يصف كاسيان الصلاة الناريّة في كتاب Conferences في الفصلين التاسع والعاشر. ويلاحظ C. Stewart أن هذه الصلاة، على عكس ما يعتقد مار أوغريس، هي صلاة يحدث فيها انجذاب عقلي (دهش) ولكنها تظل في نفس الوقت شعوريّة، وتتماشى تلك الرؤية مع المصادر السريانيّة والمصادر التالية للقديس مكاريوس الكبير، أكثر مما تتقابل مع رؤية مار أوغريس.

Stewart, Cassian the Monk, pp. 114-30; “John Cassian on Unceasing Prayer”, pp. 170-7


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/spirit.html

تقصير الرابط:
tak.la/w8zgddk