St-Takla.org  >   Full-Free-Coptic-Books  >   FreeCopticBooks-020-Father-Tadros-Yaacoub-Malaty  >   007-Short-Stories
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب قصص قصيرة (مع مجموعة من القصص الطويلة) - القمص تادرس يعقوب ملطي

572- قصة: قاطع الأحجار

 

إعداد: موريس خليفة زخاري

 

جلس الراهب الشاب مع معلمه الشيخ بعد مسيرة يسيرة أبعدتهم قليلًا عن باب الدير. جلسا علي مكان يستطيعان منه رؤية الشمس الغاربة، تلك اللحظات التي يحبها الشيخ، ويُعجب بها الراهب الشاب، والتي كثيرًا ما كان في أثنائها يرشد الشيخ الراهب إلى طريق الجهاد، ويعلمه كيف يسلك في درب الفضيلة.

كثيرًا ما كان يروي الراهب لمعلمه أحزان قلبه وأمراض نفسه وآمال روحه. فكان الشيخ يعزيه ويقدم له من اختباراته ما يصلح له، تلك التي اختبرها في حياة الجهاد للسير في الطريق الكرب والدخول من الباب الضيق. وكان الشاب يسمع له بشغفٍ ليروي روحه العطشى إلى تلك الحياة، حياة القديسين!

وفي هذا اليوم كان هناك أمر يحير التلميذ من الصباح، وقد فكر فيه كثيرًا ولم يصل إلى شيء، وانتهي إلى أن يؤجله حتى يجلس مع معلمه في ساعة الغروب كالعادة، لعله بنعمة الرب وإرشاد الروح القدس يجد عنده الجواب النافع.

وفي الغروب، وما أن خرج الشيخ من باب الدير حتى تبعه التلميذ، وسار إلى جواره، وأراد أن يكلمه، لكنه سمعه يتمتم في سره بكلمات خافتة. فعلم أنه إنما يناجي ربه في تلك اللحظات فصمت. وأراد أن يشغل نفسه حتى ينتهي معلمه من تأمله، لكن ما أن بدأ يفكر، وإذ بمعلمه يفتح فاه قائلًا:

"ما أعجب جمالك يا الله، وما أبرعه!

 كل شيء ينطق به!

 وكل كائن يمجدك!..."

وصمت لحظة، ونظر إلى قرص الشمس الأحمر وتمتم:

 "ما أحلي لحظات الانتهاء.

 إنها لحظات الانطلاق والإنعتاق.

يا رب، متى يحين موعد انطلاقنا وانعتاقنا؟"

وما أن وصل الشيخ بتأملاته المسموعة إلى هذا الحد، حتى كان قد بلغ هو وتلميذه إلى المكان الذي يستطيعان منه في جلوسهما رؤية الشمس الغاربة والمساحات الشاسعة من الرمال الذهبية الجميلة، فجلسا.

St-Takla.org Image: A Coptic Orthodox Monk walking in the wilderness, standing near a mountain with rocks - by Amgad Wadea صورة في موقع الأنبا تكلا: راهب قبطي أرثوذكسي يسير في البرية، في الطريق، يقف بجانب جبل و أحجار - رسم أمجد وديع

St-Takla.org Image: A Coptic Orthodox Monk walking in the wilderness, standing near a mountain with rocks - by Amgad Wadea

صورة في موقع الأنبا تكلا: راهب قبطي أرثوذكسي يسير في البرية، في الطريق، يقف بجانب جبل و أحجار - رسم أمجد وديع

نظر الشيخ إلى عيني الراهب وقال له:

"أري في فكرك شيء يشغلك، ماذا عندك؟"

وابتسم التلميذ في خجل لأن معلمه قد كشف دخيلته، وأحني رأسه، فرأت عيناه أطراف لحيته السوداء الصغيرة، ثم رفع رأسه ببطء وقال:

"أمور كثيرة يا أبتِ تشغلني".

فصمت الشيخ برهة ثم قال:

"حسن أن ينشغل الإنسان بأمورٍ كثيرةٍ، إن كانت هذه الأمور في المسيح يسوع، ورديئة هي تلك التي تشغلنا عنه، ورديء هو الإنسان الذي ينشغل بها. فليجعل الله يا ولدي أفكارك في المسيح الذي في داخلك".

بدأت فترة صمت بدأ فيها الشاب المنخفض الرأس يفكر في كلام الشيخ. وأما معلمه فكان ينظر إليه بحبٍ وعطفٍ، وكأنه كان يصلي من أجله قائلًا:

"يا رب حصِّن هذه الشجيرة الصغيرة لتكبر وتنمو، ويكون لها أغصان كثيرة وثمر طيب. ابعد عنها الثعالب الصغيرة".

ثم تنهد قائلًا: "ابعد عنها كل شر وشبه شر".

رفع الشاب رأسه، ونظر في عيني معلمه وفي ابتسامة حزينة قال:

أمور غريبة نراها في هذا العالم، تحير الفكر وتجذب الإنسان إلى السؤال عنها. ومع ذلك يظل العقل يتساءل ويتساءل.

في الصباح القريب يا أبتِ نزلت إلى القرية المجاورة لأشتري بعض احتياجات آبائي الرهبان، وجدت علي أطراف البرية رجلًا فقيرًا يملك خيمتين، يعيش في واحدة مع معزتيه ويترك الأخرى.

وهذا الرجل يا أبي عجيب حقًا. فعلي الرغم من فقره وقلة ما يمتلكه، إلا أنه يقدم ما عنده للغرباء والفقراء، فهو يكسب في اليوم عشرة قروش - كما علمت من أهل القرية - وذلك من بيع اللبن الذي تدره المعزتان، وبهذا المبلغ البسيط يقتات ويخدم خدمات كثيرة، فهو يأبى بشدة أن يمر به غريب إلا ويجلسه ويغسل له رجليه ويقدم له ما عنده ويريحه. بل وأكثر من هذا فهو إن لم يجد غرباء يأتون إليه يذهب ويفتش في القرية ويأخذهم معه إلى خيمته، ويغسل أرجلهم ويقدم لهم الطعام والشراب ويطلب منهم أن يبيتوا في الخيمة الأخرى التي أعدها خصيصًا لإقامة الغرباء، وهي أفضل بكثير من خيمته التي يأوي إليها، إذ ليس فيها ثقوب كثيرة كالأولي.

وفي الحقيقة لقد مجدت هذا الرجل، وتساءلت في نفسي:

"لماذا لم يعطِ الله هذا الرجل أموالًا كثيرة حتى يستطيع أن يكبر بفضيلته؟!

يا أبتاه، أظن أنه لو أعطي الله هذا الرجل لفعل الكثير من أجل الغرباء والفقراء.

لقد عدت من القرية متحيرًا في أمر هذا الرجل، وأمر الله معه. ولقد طلبت من الله أن يعطي هذا الإنسان ما أتمناه، وسأظل أطلب، وسأقيم صلوات وأصوم للرب لكي يعطيه أموالًا كثيرة ينفقها علي الغرباء والفقراء".

وعند ذلك التفت الشيخ إلى تلميذه وقال له بصوت منخفض أجش:

"لا، لا يا ولدي. لا تطلب هذا الطلب لأجل هذا الإنسان في صلواتك، لأنه ربما يري الله أن حالته هكذا أفضل!"

قال الراهب الشاب متعجبًا: "لماذا يا أبي لا أطلب لأجله الخير؟"

- ربما لا يكون هذا خيرًا له!

- كيف يا أبي؟

نظر الشيخ إلى قرص الشمس الذي لم يبقَ منه شيئًا إلا جزء صغير في طريقه إلى الاختفاء، وتحركت يده ببطءٍ نحو لحيته البيضاء، ثم أغمض عينيه كمن يتذكر شيئًا هناك في البعيد، وفتحهما ثم قال بصوت عميق:

كان يا ولدي في الأزمان البعيدة يعيش في صعيد مصر رجل تقي، صناعته قطع الأحجار من الجبل، اسمه "أولوجيوس" وقد أسبغ الله عليه نعمته، فكان أولوجيوس هذا قويًّا عفيًّا. يعمل من بزوغ شمس النهار إلى غروبها مقابل درهمٍ واحدٍ، في سبيله يحتمل برد الشتاء وحر الصيف. وفي يومه يصبر على الفجر وشمس الظهيرة وصقيع الغروب، صائمًا طول يومه، لا يذوق شيئًا إلى المساء... كان وحيدًا، لم يكن له أحد يؤنسه؟

وفي المساء يعود أولوجيوس بدرهمه راضيًا قانعًا بما أعطاه الله. وما أن تطأ قدماه أرض داره حتى يضع أدوات عمله الثقيلة ويأخذ سراجًا منيرًا ويطوف باحثًا عن الغرباء في ضيعته التي يعيش فيها. وإذا وجد إنسانًا غريبًا أخذ يرجوه أن يتفضل بالمجيء إلى داره. وبعد طوافه يعود بالغرباء الذين وجدهم، فيغسل أرجلهم واحدًا واحدًا، ويقَّبل أياديهم. ثم يقدم لهم مائدة المحبة المتواضعة، وعندما يفرغ ضيوفه الغرباء من طعامهم يأخذ الكِسرْ التي تبقت ويطرحها إلى كلاب الضيعة، فتأكل هي أيضًا من درهم أولوجيوس.

الدرهم الوحيد الذي بيد أولوجيوس يصبح كأنه دراهم عديدة.

كانت هذه هي عادته كل ليلة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

وفي أحد الأمسيات بعدما طاف أولوجيوس وجميع غرباء الضيعة، وقد تأهب للذهاب بهم إلى منزله، وإذا في الطريق يقابله راهب تظهر عليه سمات القداسة والورع، قد نزل من ديره إلى الضيعة يبيع عمل يده، ولكن قد سبقه ظلام المساء قبل عودته إلى ديره.

تهلل وجه أولوجيوس وفرح قلبه لأنه وجد غريبًا قد نسيه وطلب من الراهب أن يأتي معه، وأخذه هو وغيره من الغرباء وصنع معهم حسب عادتهم، محتفلًا بضيافتهم.

وفي الصباح ذهب أولوجيوس إلى عمله والآخرون كل إلى مقصده. وقصد الراهب ديره في الإسقيط.

← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: The Stone Cutter.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

في الطريق إلى الإسقيط فكر الراهب -مثل فكرك الحالي- في فضيلة قاطع الأحجار الذي لا يكسب سوى درهمًا واحدًا في يومه، وقارن بينه وبين كثير من الأغنياء الذين يملكون مئات الألوف من الدراهم.

تساءل: لماذا لا يعطي الله هذا الإنسان قاطع الأحجار مالًا أكثر، حتى يكون له ما يحسن به إلى كثيرين. وتحير الراهب، ثم تضرع إلى الله أن يرزقه أكثر. وأقام صلوات وأصوام كثيرة من أجل أولوجيوس في أسابيع متصلة، حتى أن الراهب أقام منطرحًا من الصوم والصلاة ثلاثة أسابيع، فصار كالميت. وكان قد أعطي الرب عهدًا ألا يأكل خبزًا إلا بعد أن يستجيب سؤاله من أجل أولوجيوس في أن يعطيه أموالًا كثيرة يٌحسن بها إلى آخرين كثيرين.

وفي أحد أيام صومه رأي الراهب في نومه رجلًا واقفًا به، لابسًا مثل الكهنة، عظيم الهيئة، مرهوب الطلعة، وقال له: "ما حالك؟"

فقال الراهب: "يا سيدي، استجب طلبتي في أولوجيوس، وأعطه ما طلبت لأجله، حتى يحسن حاله".

قال له: "إنه هكذا هو حسن الحال".

قال الراهب: "أعطه أكثر مما أعطيت، حتى به يتمجد اسمك في قومٍ كثيرين".

أجابه بقوله: "إنني أقول لك إن حاله الآن حسن. ولكن أقول لك أيضًا إن شئت أن أرزقه سعة أكثر اضمن لي نفسه أنها لا تسقط في أعمال سعة الغني والشره، وأنا أستطيع أن أهب له ما تطلبه أجله. أنا الرب إلهك الذي أهب كل شيء".

 قال الراهب: "نعم يا سيدي أنا أضمن نفسه".

أجابه السيد: "أنت الذي يضمن أولوجيوس".

- نعم يا سيدي.

- أنت؟! سأطالبك بالضمان.

- نعم يا سيدي علي ضمانتي أعطه ما قد طلبته منك له.

 - إني أعطي أولوجيوس أموالًا كثيرة لأجل طلبتك، أما نفسه فأطلبها منك لأنك قد ضمنتها.

قام الراهب من غفوته فرحًا سعيدًا، لأنه بهذا عرف أن الله قد استجاب طلبته وأعطي أولوجيوس ما قد طلبه لأجله. فتناول قليلًا من الطعام والشراب بعد صومه الطويل، ووقف يشكر الله الذي يستجيب طلبة بني الإنسان.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

في الصباح خرج أولوجيوس كعادته إلى عمله قاصدًا المكان الذي يقطع فيه الحجر، وكان يسير بين الجبال الشاهقة الصلدة، رافعًا وجهه إلى السماء، بعينين في صفاء عيني الديك، مرنمًا مزموره الذي يعزيه:

"رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني.

معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.

لا يسلم رجلك للزلل.

فما ينعس حافظك، هوذا لا ينعس ولا ينام حارس إسرائيل.

الرب يحفظك.

الرب يظلل علي يديك اليمني، فلا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل.

الرب يحفظك من كل سوء، الرب يحفظ نفسك.

الرب يحفظ دخولك وخروجك من الآن وإلى الدهر. هلليلويا".

أحس وهو يرنم مزموره في هذا الصباح أن الجبال وسكانها من طيور جارحة وبسيطة، ووحوش كاسرة وأليفة تردد معه مزموره الذي يحبه. فنزلت من عينيه دمعة، هي دمعة شكر وحب لله.

وواصل سيره إلى المكان الذي يقطع منه الحجر بنفس مستريحة.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

ما أن وصل إلى المكان، حتى أمسك بمعوله وسمى باسم ربه وهوى بقوة علي الجبل ليكسره. وما أن فعل هذا حتى خرج صوت غريب من المكان الذي هوى عليه بالمعول، صوت لم يألفه من الأحجار من الوقت أن أتخذ قطع الأحجار عمل له. صوت يدل -إن صدق ظنه- أن تحت هذا المكان تجوفًا.

ولم يطل في تفكيره وتعجبه، إذ رفع معوله مرة أخري وبشدة هوي علي المكان الذي خرج منه الصوت، وبدل من أن يتكسر الحجر كعادته، إذ به يظهر ثقب صغير. ومع توالى ضربات أولوجيوس القوية العنيفة اتسع الثقب ليكتشف من تحته مغارة كبيرة. تعجب أولوجيوس، ومع أن الشمس أرسلت أشعتها إلى داخل المغارة إلا أن أولوجيوس لم يتبين ما بداخلها، إذ كان الظلام والغبار فيها كثيفًا.

ووقف أولوجيوس أمام باب المغارة متحيرًا، متساءلًا:

ما هذا؟! مغارة!

ماذا بها؟ لست أدري!

ولماذا لم تظهر من قبل اليوم؟ لست أعلم!

وماذا أفعل؟ وجاءه الجواب من الداخل: "انزل، انزل يا أولوجيوس، إن لك في هذه المغارة شيء".

ونظر أولوجيوس خلفه، والتفت بحذر عن يمينه ويساره، وعندما تأكد أنه لا يراه أحد ربط الحبل الذي يستخدمه في عمله في نتوء في الجبل، وألقي بطرف الجبل داخل المغارة. وبيديه القويتين أمسك بالحبل وأخذ ينحدر به إلى داخل المغارة. إن الحفرة عميقة كالبئر وأحس بقدميه أن الحبل قاربه علي النهاية وهو لم يصل بعد.

ولكن ما أن فكر في هذا حتى وجد قدميه تلمس قاع المغارة فسرّ في داخله.

كان الظلام في داخل المغارة شديدًا، فلم يستطع أن يتحرك خوفًا من أن يصطدم بشيء. ولكن ما أن اعتادت عيناه علي ظلام المغارة حتى ابتدأ يفتش فيما تحويه هذه المغارة. وجد صناديق خشبية كبيرة مغلقة، وقوارير فخارية أحجامها ضخمة ليس إلى داخلها منفذ. فأخذ يسأل نفسه عما بداخل هذه الصناديق وتلك القوارير الضخمة. ولكن أتاه الجواب بضربة قوية من يده حطمت سقف أحد الصناديق، وخرج من الكسر بريق يخطف الأبصار، وصرخ أولوجيوس في صوت متكوم: "ذهب! ذهب! دراهم! دنانير ذهبية! ذهب!"

وفي لحظات كانت يداه القويتان تحطمان وتكسران أسقف الصناديق وأعناق القوارير... وكلما فتح صندوقًا أو عرف ما بداخل قارورة، صرخ تارة: "جواهر! لآلئ!" ويصرخ أخري "ياقوت! مرجان! حلي من ماس!"

وعندما انتهي من التطلع إلى الصناديق الكثيرة ضبط نفسه، ورفع وجهه إلى فوق حيث باب المغارة وأرهف أذنيه ليعرف هل من أحد سمع صوته. ولكنه لم يسمع شيئًا يدل علي ذلك. فأخذ يفكر ماذا يفعل بهذا الكنز العظيم، عندئذ قال في نفسه: "إني إن أخذته وذهبت به إلى الضيعة يسأل القوم عما أحمله، ثم يبلغون عني الوالي. فيأخذه مني، وأصبح أنا في خطر، ولكن ماذا أفعل؟

وبعد تفكير قرر أن يأخذ الكنز ويذهب به إلى بلد بعيد لا يعرفه فيها أحد، ويبدأ هناك حياة جديدة.

وإذ قرر هذا، قام وتسلق حبله وصعد إلى سطح الأرض وبقوة انتزع حجرًا ضخمًا من الجبل ووضعه علي باب المغارة حتى لا يراه أحد إلى أن يعود، وبتدابير حكيمة بدأ عمله.

استأجر دابة وادعي أنها لنقل الحجارة، ونقل عليها المال. ومن طريق خفية ملتوية بين الجبال بعيدًا عن أعين الناس استطاع أن يمر بقافلته إلى أن وصل إلى البحر، وهناك استأجر مركبًا وأصعد عليها كنزه.

لم يصارح النوتية بل ادعى أنه تاجر يسعى للرزق، وهذه هي بضاعته. وسارت المركب قاصدة بيزنطة حسب أمر أولوجيوس التاجر. وما أن اختفت المدينة عن نظره وراء الأفق واختفت قمم الجبال التي طالما كان يعيش في سفوحها بقطع الحجر، حتى صار فكر أولوجيوس مشغولًا بأمورٍ كثيرة، بأمواله وذهبه ومجوهراته، وبحياته الجديدة التي يريد أن يحياها، وبأصدقائه الجدد الذين يخالطهم في مظهره الجديد.

وعندما تذكر أخوته الغرباء، انبرى يقول لنفسه: "لا... لا... إنني سوف لا أنساهم، سوف ابني مضيفة كبيرة للغرباء، وسوف أعطي للفقراء والمساكين أموالًا كثيرة".

وأخذ يقول في نفسه: "حسن... حسن هذا أن يكون!"

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

كان طوال أيام الرحلة مستغرقًا في أفكاره، ومشغولًا بها، مما جعله كالنائم، يأكل قليلًا ويتحرك ببطءٍ، ويتكلم وهو شارد الذهن، ناظرًا إلى الأفق البعيد.

ولم يتنبه عن غفوته هذه إلا في صباح أحد الأيام عندما سمع أحد النوتية يصرخ: السلامة... السلامة... لقد ظهرت شواطئ بيزنطة. وهنا بدأ يذكر آماله التي وضعها. وكان قد أوصى رئيس النوتية أن يساعده في الحصول علي منزل لائق لإقامته حتى ينتهي من تجارته في تلك المدينة.

وما أن رست المركب حتى سارت الأمور حسبما رتبها وتمناها.

واستقر أولوجيوس في المدينة وعلم من أخبارها أن ملكًا جديدًا يدعى يوستسيانوس قد ملك علي بيزنطة، فقال في نفسه إن الأمور تسير علي ما يرام، وكل شيء مهيأ لكي أصعد مع الصاعدين. فصادق وجهاء القوم والأجلاء وعاشر العظماء، يأكل معهم ويشرب، ويسكن القصور.

كان يركب مع عظماء الدولة ويقدم لهم الهدايا بنفس واسعة ويقرضهم الأموال، حتى احتل مكانة عظيمة بينهم.

سمع به الملك فدعاه إلى مائدته وأكرمه. وكان قد أخذ أولوجيوس للملك هدية عظيمة، وهي قطعة من الماس أكبر بكثير من تلك التي يحتفظ بها الملك في تاج ملكه، ففرح الملك بهدية أولوجيوس المصري، فوهبه أرضًا بناها قصرًا تحفة للناظرين. علق عليها القوم بأنها "دار القبطي".

وفي وسط حياة مثل هذه نسي أولوجيوس نفسه، ونسي الغرباء والفقراء وتخلي عن عمله الصالح بل لم يعد يذكره أبدًا.

وفي أحد الأيام قام أولوجيوس من نومه قرب الظهيرة، بعد ليلة ساهرة تناطحت فيها الكؤوس، وسمع فيها من جميل القول أصناف، ومن ملفوف الكلام مؤدبه وقبيحه. وتلألأت عقود الماس التي تزين بها النساء. تثاءب أولوجيوس عندما تذكر أن له موعدًا مع الملك اليوم لأمرٍ هامٍ. وصاح أولوجيوس مناديًا عبيده، وصاح فيهم: "اعدوا الحمام سريعًا، واخرجوا أفخر ثيابي وأغلاها. لأني سوف أكون اليوم في حضرة الملك". وأسرع الخدم ينفذون أمر سيدهم العظيم.

وخرج أولوجيوس من الحمام وظهر في بهو الدار في صورةٍ عظيمةٍ ومظهرٍ بهيٍ، وأخذ يتبختر في سيره حتى وصل إلى باب الدار، وكانت هناك عربة كبيرة تنتظره. وفي أبهة ركب أولوجيوس العربة. ولكن ما أن وضع قدميه فيها حتى سمع صوتًا عظيمًا يصرخ من خلفه: "ارحمني، لأن لي سرًا أقوله لك منفردًا... ارحمني..."

وسأل أولوجيوس من هم حوله عن مصدر الصوت، فقيل له إن راهبًا أنهك النسك قواه يناديك. فابتسم ولم ينظر، وسارت المركبة إلى قصر الملك.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

أما الراهب فقد تولاه أحد الخدام، الذي صار يضربه ضربًا مؤلمًا ثم جرحه وطرده بعيدًا عن باب الدار. فمشي الراهب علي يديه ورجليه من شدة الألم بجوار السور وجلس بعيدًا يستريح مما جري له. فجاءت جلسته بجوار أحد الشحاذين الذين يلتفون حول بيوت العظماء فاقترب الشحاذ من الراهب وأخذ يوبخه قائلًا:

"أيها الراهب، ما الذي أتي بك إلى هنا؟

أليس لك دير تستكين فيه، فتقوم بما نذرته علي نفسك وما كان يحدث لك ما قد نلته اليوم، جزاء طول لسانك وإلحاحك المفزع في الاستجداء".

فنظر إليه الراهب بحنو وقال: "يا أخي ما جئت إلى هنا لأستجدى، وإنما جئت لأخلص نفس هذا الإنسان".

فنظر إليه الشحاذ بتعجب وقال: "أي إنسان؟"

- أولوجيوس؟!

- صاحب الدار؟

- نعم...

- لعلك مخبول أيها الراهب.

- سامحني يا أخي... إنني أعرف هذا الإنسان من قبل الآن، أعرفه من زمانٍ طويلٍ.

وجلس الراهب متكدرًا، مفكرًا في نفسه، نادمًا أنه ضمن نفس هذا الإنسان أمام الله، ثم بدأ يقول في داخله:

"لكنني ما كنت أعرف أولوجيوس قاطع الأحجار التقي يصير علي هذا الحال المحزن.

سامحني يا ربي.

اعتقني من الضمان الذي تكلفت به من جهة نفسه".

وأخذ يسترجع في ذهنه كيف أنه منذ أيام رأي أولوجيوس في المنام في هيئة قبيحة وبين قوم مرعبين يجرونه، وكيف عرف أن هذا الحلم يكشف عما صار إليه حال أولوجيوس. فترك ديره وذهب إلى الضيعة التي رأي فيها أولوجيوس لأول مرة، وهناك عرف ما كان لأمره. إنه صار عظيمًا من عظماء بيزنطة، ومن المقربين لملكها، وأنه ليست له علاقة بالكنيسة، وصار إنسانًا متكبرًا غير محب للفقراء.

ولما سمع هذا ترك الضيعة وهو يقول لنفسه: "ويحي أنا الذي جنيت هذا الشر القاتل". وذهب وركب سفينة وتوجه بها إلى حيث أتت به إلى بيزنطة، وكيف أنه مجرد أن ذكر اسم أولوجيوس أشار له الناس إلى هذه الدار.

تنهد الراهب وقال في نفسه: "ماذا أفعل الآن بعدما حاولت أن أحدثه فضربوني؟"

وكان الراهب في كل مرة يحاول فيها أن يصل إلى أولوجيوس ينال من الضرب أوجعه، ومن الجر أبعده، حتى صغرت نفسه، وقال: "سوف أسير إلى الإسقيط، فإن أراد الله يخلص أولوجيوس".

ثم ذهب إلى الشاطئ وطلب سفينة إلى الإسكندرية. ولما صعد إلى السفينة أخذ يصلي، وكان يطلب شفاعة السيدة العذراء عند ابنها الحبيب لكي يخلصه من ضمانه لأولوجيوس.

وإذ كان يصلي بهذا في ذهنه نعس، وإذ في المنام يري ضجة عظيمة قد حدثت، وإذ هو كورقة خريف.

ونظر وإذا بالسيد المسيح جالسًا يقول له: "لا تضمن ضمانًا زائدًا عن قوتك، ولا تقاوم مشيئة إلهك".

لم يستطع أن يفتح فاه بكلمة، وإذ به يسمع صوتًا يقول: "ها هي الملكة خارجة".

فلما رآها صرخ وقال بإتضاعٍ: "يا أم العالم ارحميني".

فقالت له: "ماذا تريد؟"

قال: "أنا معلق من أجل ضماني لأولوجيوس".

قالت له: "أنا أسأله من أجلك".

وللوقت قامت وذهبت إلى السيد المسيح وسجدت قدامه، فقال السيد للراهب: "لا تعد تغفل هذا مرة أخرى".

فقال الراهب: "لا أعود يا سيدي، فإنني أخطأت... اغفر لي".

عندئذ قال له الرب: "عد إلى قلايتك، وسوف تعرف كيف أرد أولوجيوس إلى سيرته الأولي".

فلما استيقظ الراهب من نومه فرح فرحًا عظيمًا بخلاص نفس أولوجيوس، وانعتاق نفسه من الضمان، وشكر الرب علي عظيم صنعه، وشكر السيدة العذراء من أجل صلواتها التي قدمتها عنه أمام ابنها الحبيب. وبعد ثلاثة أيام عندما رست السفينة في الإسكندرية، سمع الراهب أن ملك بيزنطة قد مات، وأن ملكًا آخر قد ملك غيره.

وبعد مدة يسيرة عصاه ثلاثة من كبار رجال دولته ومعهم أولوجيوس الوزير القبطي. وقد قبض علي الثلاثة رجال وبعد عذابات كثيرة ضربت أعناقهم بحد السيف. أما أولوجيوس فقد نُهبت أمواله وصودرت ممتلكاته، لكنه استطاع أن يهرب بالليل من المدينة. وقد أمر الملك أن يتعقبه الجنود، وأن يقتلوه أينما وجدوه.

فاختفي أولوجيوس كأحد المساكين من العامة حتى استطاع أن يصل إلى ضيعته التي نشأ فيها في صعيد مصر.

كان أولوجيوس قد أبدل ثيابه التي كانت عليه بثياب أهل الضيعة. وعندما علم أهل الضيعة اجتمعوا إليه لينظروا أخاهم الذي غاب عنهم كثيرًا ثم عاد. وفرحوا به وقالوا له: "ورودًا ميمونًا وردت يا أخانا العزيز. بلغنا عنك أنك قد صرت وزيرًا وقد فرحنا لذلك".

فقال لهم: "إني أعجب من هذا الكلام، إنني لو كنت قد أصبحت وزيرًا كما تقولون لما كنت أراكم الآن. ولكنني سمعت أن رجلًا اسمه كاسمي وزيرًا بالقسطنطينية". ثم اخفض رأسه لأنه كان يعلم أنه يكذب عليهم.

أعادوا عليه التهنئة بقدومه، ثم تركوه وذهبوا.

St-Takla.org                     Divider فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

وما أن جلس في بيته حتى عاد إلى نفسه وبدأ يقول:

"يا أولوجيوس الحقير الضعيف.

قم خذ عدتك واذهب اعمل كما كنت.

ليس لك هنا قصر الملك الذي كاد أن يضيع فيه رأسك..."

ثم قام وأخذ عدته وخرج، وفي الطريق سالت دموعه غزيرة نادمة علي ما فعله، كيف صنع هذه الأمور بجهالة.

ثم رفع عينيه المملوءة دموعًا نحو السماء في خجل وقال:

"سامحني يا رب، سامحني..."

ثم بدأ يتذكر مزموره الذي كاد أن ينساه لأنه لم يردده منذ خروجه من ضيعته. بدأ يقول: "رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني..."

وقد استجاب الله له، ورده إلى سيرته الأولي، ولم يرد أن يطيع أعماله السالفة، ورجع أولوجيوس إلى عادته الأولى. يعمل طول النهار ويكسب درهمًا واحدًا، وفي المساء يجمع الغرباء ليغسل أرجلهم، ويقبل أيديهم، ويطعمهم، ويلقي بالبقايا إلى كلاب الضيعة.

وعاش حتى بلغ المائة من عمره، وقد وهبه الله قوة للعمل كل أيام حياته.

وختم المعلم الشيخ قصته بنظرة حانية إلى الراهب الشاب، فنظر الدموع مترقرقة في عينيه.

وما أن أحس الشاب أن معلمه قد أنهي قصته، حتى قام والدموع تملأ عينيه، وصنع مطانية metanoia وقال:

"سامحني يا أبي... أخطأت.

إنني مازلت حدثًا. ليعطى الرب خلاصًا لنفسي".


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/FreeCopticBooks-020-Father-Tadros-Yaacoub-Malaty/007-Short-Stories/Short-Stories-0572-Rocks-Cutter.html

تقصير الرابط:
tak.la/ka8fs5j